شجيج عتيج

الحفيد المدلل
عيسى الشيخ حسن

كان غياب أبي أحد محرّضات كتابة الشعر، ولكنّ جدّي كان محرّضي الأهمّ في تحوّلي إلى السّرد.
لم يكن جدّي حكّاءً، ولكنّه كان بطل الحكايات التي روتها أمّي، ابنته البكر ومدلّلته أيضاً، وأستطيع القول أنّي أخذت دورها فيما بعد وصرت الحفيد المدلّل عنده إلى حين، حتّى إنّه يمكنني تحوير مثل قديم: “كلّ حفيدٍ بجدّه مُعجَب”.
.
كانت أمّي طفلةً في العاشرة تقريباً، حين رافقت جدّي من الفرات إلى البريّة لتفقّد الزرع. في ستينيّات القرن الماضي كان بعض أخوالي يتوزّعون بين قيظ الفرات، وشتاء البريّة. فيفلحون القطن الذي ازدهرت زراعته في وادي الزور، ويشتّون في “أبو الكالات” ويبذرون أرضهم في انتظار هبة السماء.
.
في ذلك الربيع، وجد جدّي الرعاة يمرحون في الزروع بأغنامهم. مجموعة من الشباب، استمرؤوا فكرة أن ترعى الماشية الزرع “السايب”، بعدما تراجعت مساحات الرعي. ولم يلقوا بالًا للرجل الوحيد تتبعه طفلة في العاشرة.
تقول أمّي إنّ جدّي اقترب من الراعي الراتع في أرضه، وبدأ يحاججه في أنّ الغنم نفشت في الزرع. كان الراعي ينظر إلى الأمر غير مبالٍ، وقد أسند فكّه على يديه المثبّتتَين فوق العصا المركوزة إلى الأرض.
قال له جدّي، هذا زرع ألّا مو زرع؟ وردّ الراعي المتكاسل: هاااا؟ زرع، حينذاك “تفّ” جدّي العصا من يد الراعي، وبدأ يضرب المسكين الذي فاجأه “صواب الغفلة”. وفي الحال ركض نحوهما الرعاة الشباب لنجدة أخيهم.
.
هذا الصباح أنفقت وقتاً في البحث عن “تفّ” في تذكّر العصا التي تفّها (خطفها) جدّي من يد الراعي المستهتر، بحثت في التاج فلم أظفر بما يشفي غليل الباحث، بل إنّه يذكر أنّها مهملة في المعاجم الأولى، وقد استدركها الصاغاني في “العُباب”. كان الصاغاني آخر الشهود على بغداد ما قبل السقوط؛ حيث “تفّ” المغول البلاد من يد الراعي “الجايف”، فقتلوا الراعي، و”ذبّحوا الحَلال”. (وضع الصاغاني معجم العباب، وبقيت منه بعض الأجزاء وتوفي قبل السقوط بستة أعوام (650هـ).
.
تنسرب “تفّ” و”هفّ” في دلالات شاويّة متنوّعة وتتداخلان مع (خطف) بفروق معنويّة خفيفة تفيد المفاجأة والسرعة والصراع والخداع والمغافلة.
.
تروي أمّي القصّة بخوفٍ وإعجاب، وتشكر العناية الإلهيّة التي أرسلت لهما نجدة سريعة؛ ففي ذلك الربيع يكثّر “خمّامة الزرع” ملبّين رغبة النزهة أيضاً. تقول: اقترب الرعاة وبدأت تصرخ “يا يابا.. يا يابا”، وإذا “سُربة دراريب” تبدو من بعيد، سمّتهم لي، وأتذكّر منهم “علي العبد الخليل” رحمه الله. جاءت النجدة لمراضاة الراعي المنكوب قبل أن يستفحل الأمر إلى حرب أهليّة مصغّرة، ولكي تقف أمام “ربعه” المغتاظين الذين عرفوا أنّ للزرع أهلًا.
.
تحيل “كونات” الرعاة والفلاليح، على حداثة “ثقافة الفلاحة” في بلاد تتحوّل ببطء من البداوة إلى الاستقرار، والصراع بين أهل الضرع وأهل الزرع. وبخاصّة في الأرض البعيدة عن كتف الفرات. ولم تكن تلك حرب جدّي الوحيدة؛ فقد رووا لي أنّه تشاجر مرّةً مع رعاةٍ فتكاثروا عليه وضربوه، وأخذوا منه “مَحرمته”، وتركوه، فلحقهم وطالبهم بالمَحرمة، فضربوه ثانية، ورموه أرضاً، وتركوه، فنهض ولحقهم؛ فقال أكبرهم: “لا تبلشونّا بالزلمة، اعطوه محرمتو”.
.
في تلك البلاد البعيدة، يطلّ جدّي على زرعه، من قبره الراقد فوق تلّةٍ عالية، ولا أدري إن كان أحد أحفاد أمّي سيقرأ لها هذه الحادثة، ويذكّرها بجدّي أم لا.
.
ملحق 1:
“تستمتع أمّي بهذا الجزء من الحكاية (مشهدية تفّ العصا) وربّما بدا لي ذلك لأني كنت أستمتع أيضاً بحركة الأكشن في ذاكرة الفتاة ابنة العاشرة، وأجزم أن تلك الذاكرة الصافية أبقت هذه الصورة نقية رغم ما لاقته والداتي في رحلتها الصعبة، روت لي أمّي الحادثة غير مرّة، فكأنّها تحدثني للمرة الأولى، وكأني أسمعها لأول مرة”.
.
ملحق2 :
كتبت هذا النصّ قبل أربع سنوات تحية لأمي من البعيد، وتمنّيت على أحد أحفادها أن يقرأها لها. بعد عامين رحلت طفلة العاشرة، ولا أدري إن سمعت القصّة برواية غيرها يومذاك أم لا.
شاعر وروائي سوري