أصداء الغربة والذكريات
عيسى الشيخ حسن
وددت مثلك يا حواس أن أكتب عن تلك الأمسية البعيدة، الأمسية التي لبّت حاجة قديمة في أن تتمثّل لك النجوم. كنّا في الجزيرة موزّعين بين تلفزيون سورية وتلفزيون العراق، وإذاعة بغداد وإذاعة دمشق، نفطر مع فيروز، ونتابع أخبار الثامنة والنصف مع مهران يوسف، ونسهر مع ناظم الغزالي، ونمشي في شوارع شبابيكها تطلق أغنيات “مسافرين، واعزاز”.
.
كان هذا منذ 19 سنة أو أقلّ قليلاً، حين جئت إلى الدوحة معلّماً، وقد سكنت في “وادي السيل” قبالة بناء المسرح الوطني، لا يفصلني عنه غير طريقٍ سريعٍ بمسارين، وقد خفّف هذا عنّي مؤونة الغربة.
.
قبل ذاك لم أسمع باسم “نصير شمّة” ولكن كونه عراقيّاً فقد كان فرصةً لأستعيد شيئاً منّي، بل منّا؛ نحن المفتونين بدمشق وبغداد على السواء، نحن البعيدين عن الضوء، نتلمّس نجوم الرياضة والفنّ في شاشات الأبيض والأسود. وندرك أنّ رؤيتهم ضربٌ من الحظّ، شاهدت محمود جبر وكنت في الصفّ الثامن، جاء يدعونا إلى مسرحيته “أظنها سراديب الضايعين” ويومها أبهرنا مدرس العربي أ. ياسين بارودي بأن خطف الحديث من محمود جبر، فقدمه كما يقدم البحتري والمتنبي في دروس النصوص الشعرية.
.
رأيت سعد الدين بقدونس في دمشق، وسلمت عليه بحرارة، كنا خارجين من صلاة جمعة، رأيت كثيراً من نجوم منتخب الكرة في الملاعب. ولكن أن تحظى بنجمٍ عراقي تشاهده في الحقيقة فهذا مستحيل؛ فبيننا وبينهم ما صنع الحدّاد، حتى إن أحد أبناء قريةٍ مجاورة من جيلنا كان يصرخ في الليل: “عدنااااااااااااااااان” العبارة الشهيرة لمؤيد البدري وهو يعلق على هدف عدنان درجال على كوريا الجنوبية في بطولة اسيا عام 1984، وسمعت أن أباه بحث عمن يرافق ابنه إلى دمشق من مشجعي الكرة، يوم لعب منتخب العراق مع منتخبنا في تصفيات كأس العالم، كي يرى عدنان درجال فلم يجد.
.
حين دخلت قاعة المسرح في ذلك المساء، تمثّل لي نجومي، نجوم تلفزيون السانيو القديم بشراً من لحمٍ ودم، عراقيون في قطر، بعد النزف البشري الهائل الذي سبق الخراب، توافد الحاضرون، واقتربوا من ملء المسرح، ورائي مباشرة، وربما بعدي بصفّ جلس “مؤيد البدري” الذي أقام هنا حتى وفاته “رحمه الله”. وبعد وقت قليل حضرت “أمل حسين” وتبادلت معنا التحية، نحن المحيطين بمؤيد البدري.
.
كانت أمل حسين، نجمة شاشة العراق، بجمالها وحضورها وذكائها ونبرة صوتها، وقد فتنتنا شباباً وهي تقدّم البرامج المختلفة، فيحضر الجمال العراقي السومري والعيون البابلية النجلاء، ومن رأى أمل حسين في حوارها مع جبّار عكّار، أو نزار قبّاني فقد أعذر الشاعر البدويّ الذي أنسنته حارات بغداد فقال “عيون المها بين الرصافة والجسر..”، تقرأ الإنكليزية والعربية فما تدري بأيهما تجيد الحديث، وتحدّث سناء جميل حديث المثقف بالفن والتمثيل، وتشارك الممثلين في برامج اللغة التعليمية، رفقة ممثلين أكْفاء، فتقرّ معهم أنّ لغتنا مدينة واسعة الأبواب، تجاذبتها العوامل.
.
جاء “نصير شمّة” وعزف فأبدع، عزف بأصابعه المختلفة، وعزف بيد واحدة، وعزف مقطوعة العصافير، فانسربت في ذواتنا مويجاتُ سعادةٍ ومرح وضحك خفيف. كنت أسترق النظر إلى أمل حسين، لأرى كيف يترجم ذاك الوجه الملائكي إبداع هذا الموسيقي البارع؛ فأرى إشراق الفرح في عينيها، هو الفرح ذاته في تلك الشاشة، شاشة الأسود والأبيض، فأعود من جديد مندهشاً من براعة ذلك الموسيقيّ.
.
في مقطوعة العامريّة التي أعرف شدّة وقعها على العراقيين والعرب، وقد كنّا نتابع الحرب يوماً بيوم. “تكهرب” الجوّ فجأة، حين بدأ نصير يعزف، هربت العصافير والضحكات وإشراقات العيون من المسرح، كأنّ الدم ذاته صار ثقيلاً في جسدي، تساقطت جثث متفحّمة بين يدي العازف المتشنّجة، وكانت آخر استراقة نظر. “كانت أمل تبكي”… ولم أنظر إليها بعد ذلك.
***
حروفيات:
كنت طاءً صغيرةً في لفافةٍ من قماش، أمّي لا تكاد تراني، حين هملت عين السماء، واقترب القطيع من النهر، لم أبحث عن اسمٍ لي، ولم أسافر للعمل في بيروت. هناك يتعثّر العابرون بالبحر والسفن وشارع الحمرا.
.
يومها انزلقت من يد خطّاط، يوم استعصيت على الخطوط جميعها، ولذت بما يشبه بيضة نعامة، كاد الرمل أن يفضحني، ولم أبحث عن اسمٍ لي، لم أكن طاء الطفل لأركض وراء بائعي العنب على ظهور حميرهم المتعبة في براري الشمال، لم أكن طاء الطريق، لأشيل عنه خطا الغزاة بخيولٍ حفرت في كتب التاريخ فصولاً وفصولًا، لم أكن طاء الطريدة لأركض بقلب أمّ، وعين ذئب.
.
كنت طاءً فحسب، طريّاً مثل زبدةِ “حبّابتي” في الثامنة صباحاً، رشيقاً في شفتي الشيخ وهو يقرأ “والتين والزيتون* وطور سينين” فأحسب أن ذلك الشجر الذي لم أعرفه في البريّة يحتمل اسمي.
.
لم أبحث عن النجاة ولكنّني طرت، ولم أبحث عن قشّةٍ ولكنّي طفوت، أنا حارس اللغة الغريب، أصطاد لأولادي في براري النصوص، أكمن للموت والأفكار والحرب، لا شباك لديّ تكفي لأقول لكم إن الحرب انتهت، ولا سلاقيّ تتبعني خلف ذكرياتٍ لا تتعب.
.
ربّما كنت طاء الطارئ والطارق وأنا أحذف المتاح، وأنوء بكلكل امرئ القيس، حين قال لي أستاذي في الجامعة أعرب البيت التالي، ولم يكن في يدي غير حروف جرّ نثرتها على ذلك البيت، كما تنثر أمّي الملح فوق “مفرّكة البطاطا”.
.
حين تقولين لي هو نصّ، محض نصّ، فلن أزعل كثيراً، هل هي طاء الإحباط، أقول لكِ لم أحبط كثيراً، لأنّي لم أعوّل على شيء، كنّا أصدقاء ولكنّ الحرب “ابنة كلب” عضّتنا جميعاً، فهلكت فينا أشياء كثيرة، ولكنّ الحرب منحتنا أكثر من لعبة، لنملأ الفراغات بالكلمات المناسبة.
.
حين تقولين إنه نصّ، ولكنّه طاعنٌ في العصيان، فلن أجد في يديّ ما يكفي لأصفّق، سأمتحن الراوي ليكتب مقدّمة تناسب فرحاً سوريّاً متخيّلاً، المقدّمات ضرورة، ولكنّ الروايات تموت حين تختصم طاء البطل، وطاء الوطن. حينها سيتمكّن منّي النعاس، وأحلم بكِ، تشبهين حلب، بحاراتها الجديدة، التي استضافت قرانا البعيدة، وسلّمت أهلها فؤوس النجارة، ومساحي عمّال الإسمنت.
.
كنت طاءً فحسب، حين يعود المؤلّف من رحلته، فقولي إنّهم غرّبوا، وصار بيننا جبال وبحور، لا تنخدعي بصورهم، وحساباتهم على الفيس، وحكاياتهم في اليوتيوب، هم بعيدون، وأنتِ هنا تبحثين عن طائي، التي أبحث معكِ عنها.
ـ طاء.. طاء طائية* حوّل وانزل ع الفرس..
شاعر وروائي سوري