فاكهة المجلس
عيسى الشيخ حسن
قام الحاج علي الخليف والسامر منعقد ولم ينفضَّ بعد، فقال له الحاضرون:
-وين يا حجّي؟
– يكفّي.. صارت الساعة عشرين.
فضحكنا.. ونظر أحدهم إلى ساعته:
– الساعة عشرة وعشرة
– يعني عشرين
وضحك الساهرون جميعاً، ضحكوا ملء قلوبهم، وقد قطّعوا الشتاء الطويل بالسهر.
.
لم يكن التلفزيون وقتها قد انتشر في القرية، وبقي للتعاليل موسمها، وأهلها، وفرسانها، وأنواعها. وكنت آنست “تعاليل الشيّاب” التي تنعقد بعد صلاة العشاء، وقد تنعقد قبل ذلك، فيصلّون العشاء في البيت الذي يتعلّلون عنده. وقد يكون صاحب البيت قد أولم، فلم يكن مناسباً بعد “الكرمة” أن يغادر الناس صاحب المناسبة، إلّا بـ “تعليلة زينة”. وقد يزورون مريضاً أو قادماً من “العسكرية” والتالية مجال لـ “تعاليل الشباب”.
.
كان الحاج علي الخليف رحمه الله صديقاً لأبي، رغم أنّه يكبره سنًّا، ولكنّ زهدهما في الحياة قرّبهما من بعضهما، انضاف إليه انصرافهما إلى خدمة مسجد “أم الفرسان” الذي انبنى بعد نشأة القرية بوقت قياسي، وأرجّح أنّه أوّل مسجد تأسّس في قرى الغمر. وقد رافقتهما يطوفان مظانّ الغنى، طالبيَن فيها التبرّع للمسجد. فلمّا انتقلا إلى الرفيق الأعلى، دُفنا في باحة المسجد، تكريماً من أهل القرية لجهدهما في بنائه.
.
كان الحاج بشوشاً، طيّباً، صاحب طرفة، طالما أمتعنا بحكاياته اللطيفة، أتذكّر بعضها، ومنها أنّه وهو شابّ، التقى في موسم حصاد رجلًا أتاه الله بسطة في الجسم، فنظر إلى الحاجّ – وكان مربوعاً – وقال له:
– تباطحني؟
فقال له الحاجّ متجهّماً:
-لا
– ليش؟
– لأنّي بزماني قتلت رجل بالبطاح.
كان البطاح أو المباطح “المصارعة” الرياضة الأولى في أريافنا، يتنافس فيها الصغار والكبار، وقد يضطرّون إليها في “الكون”.
قال الحاجّ فلمّا سمع الحاصود كلامي، ارتعد خائفاً، وانصرف، ولم يعد يقترب منّي. وكانت مواسم الحصاد تجمع أهل القرى بالحواصيد الآتين من “البلاد الغربي” وربّما من الشمال التركي قبل أن تحدّ الحدود، فيجد الجمع الفتيّ، أنّ خير وسيلة للتعارف هي “البطاح” وإن كان الخاسر سيحظى بـ “حفلة تنمّر” رهيبة.
ولكنّ الحصاد ذاته كان رياضة تنافسيّة، ترتفع فيها أسهم “الطارود” الذي يتخذ يسار الجماعة، شاقًا طريقه بين خطّين من الزرع يسمّونه “الإمّان”.
.
ذكرني بعمّي الحاجّ مقطع “يوتيوب” شاهدته مصادفةً عن سبب تصوير إعلانات الساعة القديمة على توقيت 10.10، فتذكّرت تعاليل أهلنا التي لا تزيد كثيراً على ذلك التوقيت، قبل أن تأتي الكهرباء، فتستطيل تعاليل الصغار والكبار إلى “غداً نلتقي”، وربّما وجدت في القرى دجاجاً سارحاً تحت بقعة ضوء صفراء معلّقة بأعمدة مطلية بالأبيض اللمّاع.
.
قال الحاجّ: جاء البيك من الحجّ وقد هرع الناس لاستقباله، فتأخّرت عنهم، وحزنت لذلك، وقد أدركتهم، وقبل أن ألتقي الجمع، جاءني بعض الناس، يظنّونني أنا الحاجّ، فهرعوا إليّ مصافحين ومباركين، فبادلتهم التحيّة، وانفضّ الناس من حول البيك، يقصدونني، وسألني أحدهم:
– إن شالله ما تعذّبت بالسفر؟
– شويّة أثّر علينا هوا البحر.
ولم يبق مستمع إلى الحاجّ يومذاك إلّا ومات من الضحك، يتأمّل المقلب الذي تلقّاه البيك حليق الذقن وقد أخذت منه وعثاء السفر، وانفضّ من حوله الناس إلى ذاك الرجل الأنيق الملتحي، وقد بدت عليه سيماء الحاجّ.
وكان كثير من الناس يحجّون قبل السبعينات عبر البواخر.
.
تقول معلومة اليوتيوب إنّ مصمّم الإعلان قد اختار صورة الساعة 10.10، لأنّ العقربين يرسمان ابتسامة وجه في الإعلان، وهذا يشير إلى السعادة، أضف إلى أنّ الصورة ترسم علامة صح، زيادة على أنّ هذا التوقيت يظهر اسم الشركة. ولكنّ السعادة التي رسمها الحاجّ على وجه أمّ الفرسان، وقد ظلّت أسيرة حكايات يتداولها كثير من أهلنا الذين لم تحصدهم الكورونا والحرب.
.
كان الحاجّ فاكهة المجلس يومذاك، صديقاً للشباب، والشيوخ على حدّ سواء، ولا أتذكّر بم كنت أخاطبه “عمّي ي ي” لأنّه صديق أبي، أم “جدّي ي ي” لأنه في عمر جدّي، ولكنّي كنت أخاطب أبناءه، بأولاد العمّ، وظلّ الصديقان “أبي والحاج” رفيقين في قبرين متجاورين (نحو أربعين سنة)، فيزورهما الأبناء والأحفاد وأهل القرية أوقات الصلوات قارئين الفاتحة لأحدهما أو كليهما، ومن هؤلاء حفيدي “عيسى” الذي يقرأ الفاتحة لجدّه من أبيه (أبي)، وجدّه من أمّه (الحاج علي). رحم الله الشيخين.
شاعر وروائي سوري