طُوبال وبُداغ.. حقائق وأساطير

عبد الحميد الخلف الإبراهيم
كان التّركمان في أواخر الدّولة العثمانية، في القرنين الثّامن عشر والتّاسع عشر، عندما كثُرت القلاقلُ، وعمّت الفوضى، متناثرين على جانبيّ نهر البليخ، من عين العروس إلى الغازلي، يبتعدون عن النّهر يميناً أو يساراً، ويردّهم النّهر إليه، في حياة بدويّة تنزع إلى الاستقرار.
وكانوا بزعامة رجل منهم يعرف بمهنته (قاضي بجدلة) محمد الأوصمان (العثمان) القاضي الذي آلت منه إلى أولاده زعامة العشيرة.
وحدث أنّ مأمور الضّرائب (الخاجور) في أورفا مرّ بالتّركمان، فرأى فتاة جميلةً تدعى هدلا (هدلاء) بنت حسين العثمان (أو الأوصمان)، فوصفها لوالي أورفا الذي أرسل ضابطاً من ضبّاطه على رأس حملةٍ صغيرةٍ لخِطْبتِها، وكان التّركمان في ذلك الحين لا يزوّجون غريباً، ولا يتزوجون من غريب، فرفضوا طلبَه، فأراد الضّابط أن يُحْضرَها لواليه بالقوّة، فلاذ التّركمان بالحيلة، وأقنعوه بالتريّثِ والنّزولِ للقيام بواجب الضّيافة لأفراد الحَمْلةِ، ووزّعوا الجنود على البيوت لتناول الطّعام، ثم قتلوهم جميعاً.
بعد وصولِ أخبار المذبحة إلى الوالي جهّزَ حملةً كبيرةً للانتقام من التّركمان في الأرض التي سمّيت باسم تلك الفتاة (خربة هدلا).
أمّا التّركمان فكانوا موقنين أنّهم سيتعرضون لحمْلةٍ انتقامية، فاجتمعوا للتّشاورِ فوْرَ قتلِهمُ الجنودَ؛ اجتمعوا على تلّة صغيرة غربَ البليخ مقابلةٍ لتلّ الحمّام، سُمّيت باسم هذه الحادثة (تلّة المشاوريات)، يبحثون عن حلٍّ لما قاموا به.
أشار عليهم كبارهم بإخلاء المنطقة والتفرّق في البلاد، ووصلت الحملة الانتقاميّة المكانَ، فلم يجدوا أحداً، فالقوم كانوا هنا، واليوم قد رحلوا!
لكنّهم وجدوا ثلاثَ حمَامَات تحت قدر من النّحاس، أو تحت ثلاثة قدور، واحدةً سليمة طارت بعيداً، وثانيةً جريحة مكسورة الجناح، قفزت مسافة قصيرة، وثالثةً منتوفة الرّيش ممروطة، بقيت في مكانها.
ففهموا الرّسالة؛ فهموا أن الفاعلين فرّوا، فعادت الحملة بعد أن عاثت فساداً في المكان.
ولم يَعُدْ التّركمان إلى ديارهم إلّا بعد مُضِيِّ وقتٍ تناسَتْ الدّولةُ فيه الأمرَ، عادوا يتزعّمهم ابن قاضي بجدلة حسين الملقّب طوبال (الأعرج)، ويبدو أنّه كان شيخاً طيّبَ السُّمعةِ حسَنَ السّيرة كريماً، دان له جميع التّركمان في المنطقة بالولاء، ثمّ انتقلت المشيخة من بعده لابنه الذي حمل لقب أبيه (مصطفى الحسين الطّوبال).
لكنّ حادثةً أخرى وقعَتْ، وكادت تودي بالتّركمان، ففي ظروف الفوضى هذه مرّ بالتّركمان عساكرُ عثمانيّون في طريقهم من الرّقّة إلى أورفا، يقتادون سُجناءَ محكومين بالإعدام، وحكَمَهُم المبيتُ في الطّريقِ، فنزلوا عند مصطفى الحسين الطّوبال في تلّ صهلان، فقام بواجبهم وذبَحَ الذّبائحَ، وقدّم لهم الطّعام.
كان لمصطفى الحسين الطّوبال عددٌ من الأولاد أكبرُهم وأنبَهُهُم وأقواهم: بُداغ، وكانتْ قوّتُه اسماً على مسمّى، فإنّ البُداغ في لغة القوم اسم يُطلق على الجزء المتبقّي من الغصن الذي يُقطع عن ساق الشجرة أو جذعها، في عمليّة التّقليم، وهذا الجزء المتبقّي إذا تيبّس يصبحُ ذا قوّة حديديّة، تستعصي على المِقصّ والمنشار.
وقد خطر لبداغ أن يُجرّبَ قوّتَه في فكّ أسْرِ السّجناء، فاتّفق معهم على ذلك، وأثناء تقديم الطّعام أوعز لأحد الرّجال بإطفاء الفانوس أو السّراج الذي يضيء المكان، فحصلت جَلَبَةٌ وفوضى، وفُكّت قيودُ الأسرى ففرّوا، وهَبَّ العساكر يبحثون عنهم بلا جدوى، ثمّ إنّهم انصرفوا، وأبلغوا قيادتهم بما جرى، بينما فرَّ بداغ.
وفي الصّباح جاءتْ حملةٌ عثمانيّة للقبض على بداغ، فلم تجِدْهُ، وألْقيَ القبض على أبيه (مصطفى الحسين الطّوبال) وأخويه (كرعو ومعمو) وسِيقوا إلى أورفا، بينما ظلّ بُداغ فارّاً، يتوارى من القوم في النّهار من سوء ما عَمِل، ويعود إلى بيتِه ليلاً، وآلمه ما سبّبَهُ لأبيه وأخويه، فقرّر تسليم نفسه.
سُجن بداغ مع ذويه في أورفا، ثم أُخْرجوا إلى باب الأمير، وهو أحدُ أبواب المدينة، لمحاكمتهم، أو لإعدامهم.
وقَبْلَ أن تجريَ المحاكمةُ، أو يتمَّ الإعدام، كان بداغ يستغلُّ المعاملةَ الخاصّة التي كان يُعامله بها سجّانوه فيخرج من السّجن برفقتهم إلى السُّوق، ثمّ يعود ليلاً إلى سجنِه، وصادف أن رآه محمّد القردو، أحدُ أقاربه من فخذ الباكيرات، فأقنعه بالهروب؛ قال له وهو جالس في أحد المقاهي مع مرافقيه أو سجّانيه: ألا تهربُ يا بداغ؟ قد يتمّ إعدامك، وستضيع العشيرة كلّها لو تمّ ذلك!
فقال له: ألا ترى الحرّاس يحيطون بي؟
قال له: أكرمْهم واقترِحْ عليهم أن يذهبوا غير بعيد عنك يتناولون إفطارَهم، فنهرب.
فاقتنع بداغ بذلك، وأعطى الحُرّاسَ ما يتناولون به إفطارهم، وهرب برفقة محمد الباكير إلى تلّ صهلان، حيث بيتُه آنذاك، ويبدو أنّ الملاحقة، ألجأَتْهُ إلى الفرار بعيداً؛ فرّ إلى حويجة العبيد في العراق.
وفي أثناء ذلك، أثناء فرار بداغ، وبينما كان أبوه وأخواه في انتظارِ مصيرَهم في السّجن، أو وصلوا مصيرهم في بطون أجداثهم معدومين، أو هائمين على وجوههم فارّين، أغار بعضُ تركمان العلي باجلية، لسببٍ مجهول على الطّوابلة، فقتلوا عبد الله المصطفى، أصغْرَ أخوة بداغ، ولم يكن يتجاوز الثّانيةَ عشرةَ من عمره.
قيل: إنّ ذلك كان طمعاً في الشِّيخة (السّيطرة) على التّركمان، ثمّ إنّ قضيّة بداغ ٍطُويت بالتّقادم، وتوقّفَ البحْثُ عنه بعد زمن، أو خفتَتْ حِدّتُه، فعادَ إلى ديارِه في جمْعٍ ينتمون إلى قبيلة العبيد، يقودهم رجلٌ يدعى أبا شاربين.
واستطاع بداغ، بمؤازرة من جاء معه من قبيلة العبيد، أن ينتقم من قَتَلَةِ أخيه، وهرب الآخرون إلى الأكراد في دكيدكان الذين دخلوا بين الطّرفين، وأصلحوا بينهما، فرجعوا إلى العلي باجليه.
كان البليخ يفصل بين طرفي القوم المتنازعَيْن، وكان الصّلح بينهما يكاد يستقرّ! حتى جاء في يوم من الأيام أحدُ تركمان العلي باجليّة إلى حمّام التّركمان، فرأته زلخة المصطفى أخت بداغ، وجلست خارج البيت تُنَعِّي (تبكي أخاها عبد الله الذي قتله أولئك القوم)، فسمعها عبد الرّحمن الأمين (الكفش) ابن عمّ بداغ، فحملَ سيفَه، وركبَ فرسه، وكمنَ له إلى جانب مخاضة المرمر، مكانِ العبور المعتاد بين جانبيّ النّهر عند تلّ فطيم.
كَمَنَ حتى جاء المذكور، وليس له من معْبَر غير مَخاضَة المرمر، فناداه من بعيد وهو مُقبل: جهّز سلاحك، ولا تَقُلْ إني غدرْتُك! فجهّزَ سلاحه وتبارزا، فضربه على أصابع إحدى يديه، فقطع له أُصبعين، وارتمى سيفُه من يده، ووقع أرضاً، وأشرف عبد الرّحمن عليه، فقال له: يا بن عمّي لا تخرّبْ لِشّتي! (جثّتي) فردّ عبد الرحمن: يخسَأُ الـيضربك بعدَ هذا، وربط له أصابعَ يدِه، وأخذ سيفَه من الأرض، ووضعه له في خصره، وأرْكَبَه فرسَه، وقاله له: (الله معك).
وعندما وصل الجريحُ إلى ذويه، أخبرَهم بالكمين الذي نُصِبَ له، فقال كال محمد: لولا أنّ بداغ كان راضياً بذلك لما كمن لك ابنُ عمّه، فيجب أن نرحل!
لعلّ هذه الحادثة لم تكن إلّا السّبب المباشر للرّحيل، فالقومُ كانوا يستعدّون لذلك لظروفٍ عامّة، رحلوا إلى شمال حلب، ولم يعد أحدٌ منهم يتواصَلُ مع تركمان البليخ أهل حمّام التّركمان، وظلّت الصّلة مقطوعة حتّى أعادها، فيما بعد، حفيد بداغ: ياسين العبيد. واستقرّ الأمر لبداغ شيخاً على من تبقّى من التّركمان.
ومن طرائف بداغ الشّيخ أنّ ابن هذّال شيخَ العمارات أو شيخ شيوخ عنزة (أو لعلّه أحد أبنائه أو أحفاده) نزل ذات يوم في الأرض المسمّاة باسمه الآن في أراضي التّركمان، أرض ابن هذّال، ثمّ قَدِمَ على بداغ الذي كان ينزل على نهر التّركمان جنوب مقبرة الصّبيّ الأبيض.
قال بداغ لقومه، وابن هذّال قادمٌ: غطّوني باللبّاد، ولا توقظوني، فإنْ طلب إيقاظي فقولوا له: أوقظْهُ بنفسك، نحن لا نجرؤ على إيقاظه! ففعلوا، فراح ابن هذّال يغمزه بعصاه، يا بداغ! يا بداغ! قم يا بداغ عندك ضيوف!
فنهض بداغ غاضباً، يصرخ: من هذا الذي لم يدعْنا ننام!
ونظر إلى ابن هذّال، يتصنّع المفاجأة، قائلاً: أهذا أنت! حيّاكَ الله يا شيخ، لم أعلم بمَقْدَمِك! ثمّ راح يرحّب به، وأمرَ له بما يجب من واجب الضّيافة، وجلس معه، يحدّثُه ويؤانسه، ويسأله عن الحال والأهل والدّيرة التي قدِم منها.
قال ابن هذّال: يا بداغ، نحن الآن في ديرتكم، والبيت يبي (يحتاج) قهوة ويبي سكّر ويبي طحين ويبي شقاق ويبي رواق ويبي عمد، ويبي كذا وكذا. فردّ بداغ قائلاً: هذا بيتٌ الله هادمه! وش يعمرلياه! فضحك القوم، وضحك ابن هذّال وبداغ، وبالطّبع قام بداغ بتقديم كلّ ما طلب ابن هذّال، فما من أحد كان يجرؤ على ردّ طلبٍ لشيخ الشّيوخ.
ثمّ إنّ بداغ المصطفى توفّي في مطلع القرن العشرين، أو قبل ذلك بسنوات، وتوفّي ابنه عبيد قبله، أو بعده بوقت قصير.
لم يحفظ القومُ على عادة البدو، مكان قبر شيخهم، وأحسَبُه في مقبرة الصّبيّ الأبيض، ونُسي كغيره مع مرور الايّام، ولكنّ الله قيّضَ له من قومه من أحيا ذكره، فقد سمّى جدّنا عبد الرّحمن العبيدة واحداً من أولاده باسم بداغ، وآخر باسم معمو.
وكان حفيدُه ياسين العبيد هو الأرفعَ مقاماً في القومِ من بعده، والأقوى بينهم، فصار شيخَ العشيرة.
ومع ياسين العبيد بدأت مرحلةٌ معروفة مشهودةٌ من تاريخ التّركمان، تركمان البليخ، إذْ ما زالت ثُلَّةٌ ممّن رأَوْهُ وعاصروه أحياءَ، يلهَجُون بذكره، ويُثنون عليه، ويَرْوُون ما كانوا يَرَوْن.