من دهاليز القضاء

عدالة تحت المحاكمة

فواز عويد خليل

توكلت عن عسكري مجند للخدمة الإلزامية ارتكب مخالفة حادث سير، وتمّ توقيفه أمام قاضي الفرد العسكري في دير الزور والرقة، حيث كان يداوم في الدير والرقة.

وبتاريخ حضور القاضي إلى الرقة، وفي الساعة الثامنة صباحاً، كنت واقفاً مع مجموعة كبيرة من المتقاضين في ساحة عامة أمام غرفة القاضي، ننتظر بدء المحاكمة. سألت موكلي الموقوف في غرفة خاصة للموقوفين: هل استجوبك القاضي؟

قال: لا، لم يستجوبني بعد.

القانون عادةً يُلزم القاضي باستجواب الموقوفين أولاً للضرورة قبل الطلقاء. ولكن القاضي بدأ بالطلقاء أولاً، وقدّرت أنه لن ينتهي من محاكمتهم قبل الساعة الواحدة ظهراً. لذا سألت العسكري الذي يُنظم الدور: متى يبدأ القاضي باستجواب الموقوفين؟ لكي أغادر الساحة وأعود في الوقت الذي يحدده القاضي لاستجواب الموقوفين. لمحني القاضي عندما سألت العسكري، فأشار لي بيده قائلاً: تعال، ادخل.

ما أن دخلت الغرفة واقتربت منه، بادرني سائلاً بجفاء: من أنت؟ وماذا تريد؟

أجبته: أنا المحامي فلان، وكيل الموقوف فلان، وحضرت لتمثيله أمام سيادتكم عند استجوابه. فأشار بيده نحو الباب طارداً: ما في حاجة، ما في حاجة، برّه.

نظرت إليه مندهشاً من حركته وصفاقته وعبارته، وقد خيّم عليّ صمت غريب. قدرت في نفسي لعله كان سهراناً وسكراناً تلك الليلة، ولم يفق بعد من غفوته وغفلته. خرجت دون أن أنبس بكلمة.

بعد روية وتفكير، قررت أن أنتظر في الساحة حتى ينادي على موكلي لاستجوابه، عندها أدخل معه غرفة المحاكمة، عساه يكون قد استيقظ من غفوته وغفلته.

وهذا ما كان. أحضر موكلي أمام القاضي، ودخلت معه الغرفة. فنهرني القاضي قائلاً: لك شو؟ أنت ما بتفهم؟ ما قلتلك ما في حاجة؟ برّه.

فأجبته بحزم: ولماذا وكلني الموقوف إذا لم أحضر استجوابه أمامك؟

فصرخ قائلاً: وشو بدك تساوي له؟

قلت: أحضر استجوابه وأقدم له طلب إخلاء سبيل وطلب فك احتباس لسيارته المحجوزة، لأن أوراقها نظامية وليست مادة جرمية.

صرخ مجدداً قائلاً: أوف، أوف، كل هذا وبهل السرعة! شو ما بتعرف أنو موكلك مجرم وبيستحق العقاب؟

قلت: أنت لم تستجوبه بعد لتعلم إن كان مجرماً أو لا، ولم تدرس الإضبارة لتعلم إن كانت سيارته نظامية أم لا. وحتى لو كان مجرماً، فمن حقه قانوناً أن نقدم له طلب إخلاء سبيل وطلب فك احتباس لسيارته، ومن حقك أن ترد الطلب أو تجيبه.

فقال بعصبية، مشيراً إلى الباب: روح عنّا يا… برّه. فقادني العسكري خارج غرفة المحاكمة.

في اليوم الثاني، تقدمت بشكوى ضد هذا القاضي، شرحت فيها الواقعة كما حصلت، ونوهت أنه أساء إليّ كمحامٍ وإلى مؤسسة القضاء العسكري وإلى مهنة المحاماة معاً. وأخذت الشكوى مجراها من نقابة المحامين إلى وزارة الدفاع وإلى هيئة القضاء العسكري في دمشق.

استدعيت من قبل الرائد منجد بدران، المحقق في هذه الشكوى بالقضاء العسكري في المزة بدمشق لسماع أقوالي.

سافرت إلى دمشق، ودخلت غرفة الرائد المذكور، وكانت تضم عدداً من الضباط رفيعي الرتب. فرحب بي ترحيباً ودياً حاراً وقال: أنا آسف يا أستاذ لأنني حملتك مشقة السفر من الرقة إلى دمشق، ولكن كان لا بد من مقابلتك وسماع أقوالك في شكواك هذه.

فشكرته، وانسحب الضباط من القاعة تباعاً، ولم يبقَ فيها سوانا.

استدعى المساعد كاتب القوس، وقال له: ضع هذه الطاولة أمام الأستاذ، واجلس بجانبه لتكتب ما يمليه عليك الأستاذ.

وَأضاف: أستاذ، قبل أن نبدأ بكتابة أقوالك، أودّ أن أسمع منك الحادثة بالتفصيل. شرحتها له كما حدثت. فاستغرب من تصرفات القاضي وقال: العمى، هذا مجنون وليس قاضياً.

وأَضاف: أستاذ، أريد أن أسألك سؤالاً.

قلت: تفضل.

قال: هل اشتكيت على هذا القاضي لسوء سلوكه معك، أم لأنه لم يُخلِ سبيل موكلك؟

فابتسمت وقلت له: أنا كمحامٍ، دوري ينحصر بتقديم الطلبات والدفاع عن حقوق الموكل المشروعة بالقانون فقط، ولا علاقة لي بنتيجتها مطلقاً. ودور القاضي هو دراسة الدعوى واستجواب الأطراف وسماع أقوالهم وأقوال محاميهم واحترامهم، ومن ثمّ إجابة طلباتهم أو ردّها. ويقع ذلك على عاتقه وحده ومسؤوليته الخاصة، ولا شأن لنا بذلك مطلقاً. ولكنني تقدمت بالشكوى ضده لأنه أساء إليّ كمحامٍ أمثل نقابة المحامين المنوطة بحق الدفاع عن الموكلين، سواء كانوا أبرياء أو مجرمين، ولأنه أساء إلى سمعة وهيبة مؤسسة القضاء العسكري المنوطة بتطبيق القانون على المواطنين. ومثله لا يصحُّ أن يكون قاضياً، وهو بهذا الجهل والصفاقة.

قال مبتسماً: صدقت. وكيف ترى أنه يجب عليه معاملتك كمحامٍ؟

قلت: الأمر بسيط جدًا؛ أن يستقبلني باحترام ويسمح لي بحضور استجواب موكلي، ويقرر ضم طلباتي إلى إضبارة الدعوى، وأغادره مودّعاً. لا زيادة ولا نقصان. ومن ثمّ يقرر لوحده منفرداً إجابة الطلبات أو ردّها. هذا شأنه وعلى عاتقه وحده.

قال: صدقت. هكذا يجب أن يتصرف القاضي.

سألني: هل تودّ أن تنصّب نفسك مدعياً شخصياً بحقه؟

أجبته: لا مصلحة لي في ذلك، ولا رغبة لدي في إلحاق الضرر به. ولم أشتكِ عليه لأنه أساء لي شخصياً، ولكن لأنه أساء لي كمحامٍ، وأسَاء إلى مهنة المحاماة وأسَاء إلى مؤسسة القضاء العسكري. كما أسلفت، ولكي يتمّ تنبيهه عن سوء سلوكه وتوجيهه إلى سلوك القاضي الصحيح مع المحامين والمتقاضين.

ابتسم وقال: أنت نبيل يا أستاذ. والله إن ادعيت عليه لسعيت جاهداً لتسريحه. ولكن تأكد تماماً، أنه سوف يحضر إلى نقابتكم في الرقة ويعتذر لك شخصياً أمام زملائك.

وقال: الآن، نقل الكاتب الواقعة كما حدثت بالتفصيل وبلغتك وأسلوبك الخاص.

وهكذا كان. وحضر القاضي المذكور إلى فرع نقابة المحامين في الرقة وقدّم اعتذاره أمام أعضاء مجلس فرع النقابة، ولم أكن موجوداً ساعتئذٍ في قصر العدل. وقد أخبرني بذلك بعض الزملاء من أعضاء مجلس الفرع، وقال: بحثنا عنك في قصر العدل ليعتذر لك ولم نجدك في تلك الساعة.

قلت: الحمد لله الذي نصر الحقّ على الباطل بفضل من انتصر له.

محامٍ وفنان تشكيلي سوري

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى