أحمد الصباهي
قيل في الصداقة كثير، وللتعبير عن معانيها السامية، انطلقت الكثير من الأمثولات الشعبية، ومنها “الصديق وقت الضيق”، و”رب أخ لم تلده أمك” وغيرها من الأمثولات التي تدلّل على عمق الشعور والترابط الوجداني بين الأصدقاء، ومن أعمق الصداقات هي التي تتشكّل في زمن الدراسة في المراحل الأولى، ذلك أنّها بعيدة كلّ البعد عن أيّ معنى من معاني المصلحة، فهو ترابط بريء له علاقة بالأمزجة والشعور، والحبّ الأخوي، ما يجعلها من أعمق الصداقات.
نلتقي في حياتنا بالكثير من الناس، في الجامعة، في العمل، لكن تبقى تلك الصداقات في زمن الدراسة إن استمرت هي الأعمق.
في حالتنا كلاجئين فلسطينيين في لبنان، لدينا بُعد إضافي، وهي هجرة الأصدقاء إلى الخارج، ذلك أنّ حالة اللجوء وما تشكّله من حرمان من الحقوق المدنية وحقّ العمل، تشكّل بيئة طاردة للفلسطيني، في ظلّ أزمات اقتصادية متوالية على مدار السنوات ألقت بثقلها على الجميع.
أذكر أني في إحدى المرات، كتبت على ورقة عدد الأصدقاء الذين هاجروا من لبنان ممن كنا في الدراسة، كانوا بالعشرات، ومع مرور السنوات، أصبح عدد الأصدقاء في لبنان من زمن الدراسة الأولى ممن تربطني بهم صداقة، لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، فالجميع هاجر، إلا أنّ وجود تطبيق “واتساب” أبقى صلة الوصل بشكل أو بآخر مع من هاجر منهم.
لقد هاجر لي أصدقاء مقرّبون جداً، منهم من أصبح سويدياً، وآخر ألمانياً، وأميركياً، وكندياً، وغيرها من البلدان، وشكّل غيابهم خواءً داخلياً، وشعوراً عميقاً بالوحدة، كنت ألجأ من خلاله إلى الترابط بمن بقي، وفي حالتي شكّل الصديق “سليم فرحات” الذي رحل عنا منذ عدّة أيّام، إلى عالم الآخرة، إحدى محطّات الفقد المؤلمة، ذلك أنه بمرور السنوات اشتدّت أواصر العلاقة، فأصبحنا كالإخوة.
في صباح السابع من فبراير/شباط، عند الصباح، تلقيت نبأً مؤلماً، هو وفاة الصديق سليم، بشكل مفاجئ، كان الخبر كالصاعقة على الجميع ممّن عرفوه، فكيف بحالتي وقد كنت برفقته في الأوّل من فبراير، نقضي وقتاً جميلاً برفقة أحد الأصدقاء الذي جاء من السفر حديثاً إلى لبنان.
أذكر جيداً، أنّه لدى سفري، كنت أوصيه بعائلتي، وكان يتابعني في سفري، ويسألني عن أحوالي، وماذا جرى معي، كنت أفضي له بالكثير، وعندما أعود من السفر، ما كنت لأقلق من يقلني إلى البيت، فالصديق “سليم” ينتظرني في المطار مهما كان الوقت باكراً أو متأخراً، والحقيقة، أنه كان يفعل مع الجميع كذلك، بحيث يطلق عليه “سليم وقت الضيق”.
جاءتني اتصالات عديدة من أصدقاء، يذكرون أفعاله الطيبة والحسنة، فهو من المبادرين دائماً، لم يكن ينتظر أن تسأله المساعدة إن علم بذلك، وفي حال وقوع مشكلة ولم يعلم بذلك، كان يعتب لأنه يحبّ المساعدة. لم أتفق وإياه في السياسة، إلا في معركة طوفان الأقصى، فقد كان خلافاً بين أخوين يبدأ وينتهي بالنقاش، لا أذكر يوماً من الأيّام أني تضايقت منه بموقف أو رأي، فقد كان لبقاً جداً.
شكلت والصديق “سليم” والقليل، من بقي، إحدى محطات اللقاء مع أصدقاء السفر من اللاجئين الفلسطينيين، في الخارج، ممن يزور لبنان على فتراتٍ متقطّعة تأخذ سنوات، فالآتي من الخارج يحسب حساب الالتقاء بنا بحكم قلّتنا، بحيث أصبحنا وكأننا جزءاً من العائلة التي بقيت في بلد اللجوء لبنان.
كان “سليم” فريداً في حيويته، مفعماً بحبّ الحياة، وطرد المشاعر السلبية، والتحلّي بالمشاعر الإيجابية، وأنّ المستقبل الآتي سيكون أفضل، بالرغم من التحديات والصعوبات على الصعد كافة، لا تفارق البسمة محياه، كذلك روحه المرحة، حتى في ظروف العدوان في لبنان، فقد كنّا نلتقي كثيراً، على شرب القهوة الصباحية، وفي المساء، في بيروت، بعد أن تركت منزلي في الضاحية، وكان مرحاً كعادته.
سأفتقد مشوارنا المسائي على شاطئ بحر بيروت “عين المريسة”، فقد كان تقليداً لنا في أيّام لا تتباعد كثيراً، لشرب القهوة، والحديث عن حياتنا، وفلسطين. كنّا نفكّر بالسفر، ونضحك كيف لم نهاجر، فمعظم أصدقائنا هاجروا، وأحياناً كنا نلوم أنفسنا، لكنه بسرعة يتدارك الموقف ويغيّر الموضوع، لتعود البسمة والروح الإيجابية من جديد.
في لقائنا الأخير، اتفقنا أن نلتقي على فطور صباحي، قبيل نزولي من سيارته إلى منزلي، قبل ستة أيّام من وفاته، لكن القدر كان أسرع، توفي “سليم” ووري الثرى، في مقبرة شهداء فلسطين، التي دفن فيها مؤخراً الشهيد صالح العاروري، وغيره من شهداء الثورة الفلسطينية، ليلتقي أبناء الوطن الواحد ممّن هجّرهم الاحتلال في ثرى لبنان.
كان مأتماً حزيناً اجتمع فيه أصدقاؤه، ومعارفه وجيرانه، كلّ يبكيه بحالته، ودعنا صديقاً وأخاً، وأباً لطفلين، كانا شغاف قلبه، لم أستطع إلا حضور الدفن، وما استطعت القيام بواجب العزاء بقية الأيّام، فقد صعب عليّ ذلك جداً، اعذرني صديقي.
وداعاً أيها الصديق الذي لم تلده أمي. فكان نعم الصديق الصدوق المحب للآخرين والمود لهم.