بصراحة

جحود الناكرين للمعروف!

عبد الكريم البليخ

هناك مشكلة قديمة ـ جديدة لا يزال الكثير من الناس يشتكون منها، رغم أن البعض يتجاهلها أو ينكر وجودها، وهي “نكران المعروف”. هذه الآفة الاجتماعية ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل هي سلوك متجذّر في بعض النفوس التي اعتادت الجحود وتجاهل فضل الآخرين. للأسف، لم يعد الكثيرون يعيرونها اهتماماً كما تستحق، رغم تأثيرها العميق على العلاقات الإنسانية، سواء بين الأفراد أو داخل المجتمعات.

إننا في زمن أصبحت فيه المصالح الشخصية تطغى على المبادئ، وتحولت القيم النبيلة كالشكر والاعتراف بالفضل إلى مفاهيم نادرة لا يحافظ عليها إلا أصحاب النفوس الطيبة والأخلاق الرفيعة. فمن المؤلم أن تجد أشخاصاً بذلت من أجلهم جهداً، وكنت سنداً لهم في أوقات ضعفهم، ثم بمجرد أن تتحسن أوضاعهم، يختفون من حياتك وكأنك لم تكن يوماً سبباً في وصولهم إلى ما هم عليه.

قد يظهر نكران الجميل بأشكال متعددة، فمنه ما يكون على مستوى العلاقات الشخصية، حيث نجد أشخاصاً يطلبون المساعدة حين يحتاجون إليها، ثم سرعان ما يتنكرون لكل ما قُدم لهم بمجرد أن تزول حاجتهم. ومنه ما يكون في بيئات العمل، حيث يُنكر البعض فضل زملائهم أو مدرائهم الذين ساندوهم في مسيرتهم المهنية، فلا يذكرون لهم معروفاً ولا يقدمون لهم أي تقدير، بل وربما يحاولون التقليل من شأنهم أو إنكار دورهم بالكامل.

أما على مستوى العلاقات الأسرية، فإن الجحود قد يكون أشد قسوة، عندما يُنكر الأبناء تضحيات والديهم، ويتعاملون معهم وكأنهم لم يبذلوا جهداً في تربيتهم ورعايتهم. فكم من أب وأم أفنوا حياتهم من أجل أبنائهم، ليجدوا في نهاية المطاف عقوقاً وجفاءً بدلاً من الشكر والامتنان.

إنَّ ناكر الجميل غالباً ما يكون شخصاً متكبراً، يرى نفسه أعلى من أن يعترف بفضل غيره عليه. فهو يرفض فكرة أنه مدين لأحد، ويفضل أن يُنسب النجاح لنفسه وحده. هؤلاء الأشخاص غالباً ما يكون لديهم شعور عميق بالنقص، فيحاولون تغطيته بالتقليل من الآخرين والتهرب من الاعتراف بمساعدتهم.

كما أن بعضهم يعاني من الأنانية وحب الذات المفرط، فلا يرى في الآخرين سوى أدوات تُستخدم للوصول إلى أهدافه، وبمجرد أن تتحقق مصالحه، ينكر كل من وقف بجانبه. هذه النوعية من الأشخاص تتعامل مع العلاقات الإنسانية بمفهوم نفعي بحت، يجعلهم غير قادرين على بناء علاقات طويلة الأمد تقوم على الاحترام والامتنان.

إن انتشار هذه الظاهرة في أي مجتمع يؤدي إلى فقدان الثقة بين الناس، حيث يصبح الأفراد أكثر حذراً في تقديم المساعدة خوفاً من الجحود، ما يؤدي في النهاية إلى تفكك العلاقات الإنسانية وضعف روح التعاون. كما أن عدم تقدير جهود الآخرين يجعل الكثير من المبدعين والمخلصين يتراجعون عن تقديم ما لديهم، حين يدركون أن جهودهم لا تُقابل بالشكر والتقدير.

بالإضافة إلى ذلك، فإن نكران المعروف يخلق بيئة سلبية تملؤها مشاعر الظلم والإحباط، حيث يشعر من يقدم العون بأنه لا فائدة مما يفعله، وقد يدفعه ذلك إلى الامتناع عن مساعدة الآخرين مستقبلاً.

إن جحود المعروف سلوك مشين يعبّر عن نقص في الأخلاق وانعدام في القيم. فالاعتراف بالجميل والتقدير لا يُنقص من الإنسان شيئاً، بل يزيده احتراماً ورقياً. وبينما يظن البعض أن إنكار الفضل يجعلهم أقوى أو أكثر استقلالية، فإن الحقيقة أنهم بذلك يخسرون قيمتهم الإنسانية، ويهدمون جسور العلاقات التي قد يحتاجون إليها يوماً ما.

فليكن الشكر والتقدير جزءاً من ثقافتنا، وليبقى المعروف محفوظاً في القلوب، لأن من يعرف قيمة الامتنان، سيجد دائماً من يدعمه عندما يحتاج.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى