Site icon المزمار الجديد

فواصل منقوطة؛؛؛

عبد الكريم البليخ

ما زال التلفزيون، الوسيلة الرسمية الأكثر تأثيراً، ومسؤوليته تتجاوز حدود الترفيه إلى حماية القيم المجتمعية وصيانة الهوية الثقافية. ومع ذلك، شهدت السنوات الأخيرة تراجعاً ملحوظاً في مستوى المحتوى المقدم، حيث بات التلفزيون في كثير من الأحيان وسيلة لتعزيز النفوذ التجاري بدلاً من تقديم محتوى هادف ومثري.. كما لا يمكن إنكار أن الفيديو أصبح أحد أهم وسائل الترفيه في العالم العربي، لكنه أيضاً يحمل إشكاليات عديدة ترتبط بطريقة استخدامه وانتشار محتواه. تساهم العقلية التجارية السائدة في إغراق الأسواق بأعمال تهدف بالدرجة الأولى إلى تحقيق أرباح مالية، دون النظر إلى الأثر الاجتماعي والثقافي الذي تخلّفه. وأن هذه الأعمال غالباً ما تستغل نقاط الضعف في المجتمع وتستدرج الأذواق لتبني أنماط استهلاكية سطحية.

مع كل هذا ترافق ظهور طبقة جديدة في العالم العربي، تنادي بالانفتاح الاقتصادي على العالم الغربي، مع تغييرات كبيرة في أنماط الإنتاج الفني. هذه الطبقة أخذت تروّج لبضائع الغرب، غالباً ما تنجذب إلى الأعمال التي تعكس أنماط حياة غريبة عن بيئتنا، وتشجعها. ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة هو التشويه المتعمد لقيم المجتمع الأصيلة، وتسليط الضوء على النماذج المنحرفة باعتبارها أبطالاً، مع تبرير سقوطها الأخلاقي تحت شعارات الحرية الفردية أو الانفتاح.

ومع سيطرة أصحاب رؤوس الأموال على أدوات الإنتاج، بات من المعتاد أن تظهر أفلام ومسلسلات تسعى فقط لاستغلال نجومية شخصيات أو قصص مثيرة، دون أن تحمل رسالة هادفة أو تضيف قيمة فنية حقيقية. هذه الأعمال لا تعكس سوى اهتمامات منتجيها وتجاريتهم، بينما تؤثر بشكل سلبي على عقول المشاهدين، وخاصة الشباب.

تحوّلت المؤسسات الثقافية، مثل دور السينما والمسرح والتلفزيون، إلى أدوات تسويقية بدلاً من كونها منابر للإبداع والتنوير. ولم تعد كثير من هذه المؤسسات تقدم محتوى يليق بقيم المجتمع أو يرتقي بفكر أفراده. على العكس، أصبحت شريكاً في الترويج لبضاعة متدنية تسعى فقط إلى تحقيق أرباح مالية على حساب الذوق العام.

وما يزيد من حدة المشكلة هو لجوء التلفزيونات العربية إلى شراء محتوى سبق أن رُفض بسبب ضعف مستواه أو تفاهة مضمونه، وذلك لمجرد ملء ساعات البث الطويلة. هذا النهج يعكس غياب رؤية واضحة لدى القائمين على هذه المؤسسات، وافتقارهم إلى الوعي بأهمية الدور الثقافي والتنويري للتلفزيون.

يتطلب الواقع الراهن من أجهزة التلفزيون العربية إعادة النظر في سياستها الإنتاجية والشرائية، والالتزام بدورها التثقيفي كوسيلة لتعزيز الوعي وبناء الأذواق السليمة. يجب أن تبتعد هذه الأجهزة عن السباق التجاري المحموم الذي تفرضه شركات الإنتاج، وأن تسعى بدلاً من ذلك إلى تبني أعمال فنية جادة تساهم في تطوير المجتمع وتنمية قيمه.

يظل التلفزيون وسيلة لبناء المجتمع وليس لتدميره، في ما لو ترك المجال مفتوحاً للمصادفة، ولقانون السوق، فإنّ قيم الناس ستصبح في تقهقر وتذبذب ستظل تحت رحمة شبّاك العرض!.

**

صدق الشاعر أبو الطيب المتنبي حين قال: “لكل داء دواء يستطب به… إلا الحماقة أعيت من يداويها”. بهذه العبارة الخالدة، لخّص المتنبي عجز البشر عن علاج بعض الصفات البشرية التي تتجاوز حدود المنطق. وإن كانت الحماقة عصيّة على العلاج، فإن المصلحة الشخصية تمثل وجهًا آخر لهذه الحماقة، فهي تنكشف بوضوح حين تسقط الأقنعة الزائفة. عندها، تبدو العلاقات التي بُنيت على النفاق بلا قيمة، وتظهر معادن البشر الحقيقية عندما تغيب المكاسب، ولا تبقى هناك حاجة متبادلة.

الحياة مليئة بالمواقف التي تسلط الضوء على الفرق بين أصدقاء المصالح والأصدقاء الحقيقيين. يمكننا وصف أصدقاء المصلحة بكرات البلياردو التي تتفرق في كل اتجاه بمجرد ضربة واحدة. أما الأصدقاء الحقيقيون، فهم ككرات البولينغ التي، مهما تباعدت، تعود في النهاية لتجتمع بحفرة واحدة. هذا التشبيه العميق يُجسد بوضوح الفارق الجوهري بين أولئك الذين تربطهم علاقات بالمصالح العابرة، وأولئك الذين يتمسكون بروابط الصداقة الحقيقية التي تصمد أمام اختبار الزمن.

من المفارقات المؤلمة في مجتمعاتنا أن النفاق، رغم بشاعته، قد يكون سببًا في تحقيق السعادة لبعض الناس، بينما الحقيقة، رغم صفائها، تكون أحيانًا مصدرًا للحزن. كم من الأشخاص تظاهروا باللطف والتقدير فقط لتحقيق مصلحة شخصية، وما أن انتهت تلك المصلحة، حتى اختفوا تمامًا كما يذوب الملح في الماء. لقد وصف شكسبير هذا الواقع بقوله: “عندما تنتهي مصالحهم، تنقطع أخبارهم”.

هذا الواقع هو ما يعاني منه الكثيرون اليوم. لقد أصبح النفاق قاعدة سائدة في كثير من العلاقات، ولم يعد هناك أي حلّ وسط يغير هذه الصورة المؤلمة التي أصابت كبد الحقيقة. صارت هذه الظاهرة مثالًا يُضرب في كل مكان، وأصبحت ملاذًا لكل صديق مخادع يعرف جيدًا ما يرمي إليه في هذه المتاهة التي نعيشها.

**

يفاجئك بعض الناس بابتسامة عريضة، مرسومة بعناية فائقة، تُظهر نقاءً وصفاءً مزيفين، وتحاول إقناعك بمودتهم واحترامهم لك. لكن في الخفاء، يتحدثون عنك بأحاديث بغيضة، تسيء إلى سمعتك ومكانتك. يبدأون بتشويه صورتك، ويصفونك بصفات تنقص من قيمتك، معتبرين أنك شخص غير مرغوب فيه، وأفكارك لا تتناسب مع تطلعاتهم.

يخوضون في خلقك وأنفاسك، يطالبون بإعادة “غربلتك” وتصحيحك، ويطلقون عليك أوصافاً لا تليق، ويحاولون جاهدين تشويه صورتك أمام الآخرين. أصواتهم تنادي بالمحبة الكاذبة، في حين أنك، وبكل طيبة، تمنحهم التقدير والاحترام.

إن أمثال هذه الشريحة من الناس لا يشغلهم سوى الإساءة للآخرين، ورميهم بحجارة الكراهية والانتقام. يفعلون ذلك بكل تفاخر، غير مدركين أن الحياة أوسع وأعمق من تصوراتهم الصغيرة، وأن ما يكنزونه من مال ومكائد سيزول بلا شك، كما زال من قبلهم الكثير.

**

لا يمكن للعلاقة الزوجية أن تنمو وتزدهر دون وجود قيم الوفاء والاحترام. الوفاء يعني الالتزام بالعهد الذي قطعه الزوجان على نفسيهما بأن يكونا سنداً لبعضهما في السراء والضراء. أما الاحترام، فهو الأساس الذي يحمي العلاقة من الانهيار، إذ يضمن لكل طرف تقديراً لمشاعر الآخر وأفكاره ومساهماته في الحياة المشتركة.

الحرية داخل العلاقة الزوجية ليست نقيضاً للالتزام، بل هي جزءٌ أساسي منه. يمكن أن تتحقق الحرية عندما يشعر الطرفان بالأمان والتقدير داخل العلاقة. ومع ذلك، قد تتعرض الحرية في بعض الأحيان إلى سوء الفهم، فتتحول إلى مساحات من الاستقلالية المطلقة التي تضعف أواصر العلاقة بدلاً من تقويتها.

مع مرور الزمن، قد تفقد العلاقة الزوجية بريقها إذا لم يتم الاعتناء بها كما يجب. تكرار الأعذار، والتبريرات الواهية، والإهمال العاطفي، كلها عوامل تُضعف الروابط بين الزوجين. ومن المؤسف أن تتحول العلاقة، التي كان من المفترض أن تكون ملاذاً آمناً للطرفين، إلى ميدان للشد والجذب أو حتى الخداع المتبادل.

يجبُ على كل من الزوج والزوجة أن يدركا أن الحفاظ على العلاقة يتطلب جهداً مشتركاً. فبدلاً من إلقاء اللوم على الآخر أو البحث عن أعذار، يجب أن يسعى كلاهما إلى التواصل الصادق وإعادة بناء جسور التفاهم.

**

إلى أي مدى يمكن أن تكون العلاقة بين الزوج وزوجته صادقة في ظل التأثير المتزايد لمواقع التواصل الاجتماعي؟ قد تلجأ الزوجة أحياناً إلى استغلالها لتبعدها عن زوجها، وتتركه غارقاً في بحر من التساؤلات والحيرة. في كثير من الحالات، قد يشير هذا التصرف إلى وجود طرف آخر في حياتها، منافس يمنحها وعوداً كاذبة ويُظهر لها الاحترام والتقدير بغرض جذبها إليه.

قد تجد الزوجة في هذا “العاشق الجديد” ما يطفئ رغبتها، ويشبع احتياجاتها من خلال حوارات سرية على مواقع التواصل، محمية بأرقام سرية مخفية لا يمكن لأحد أن يصل إليها. وقد يتطور الأمر إلى لقاءات سرية تُشبع رغبات الطرفين في ظل رغبة متبادلة وتفاعل خفي لا يمكن لأحد أن يكشفه بسهولة.

هذه الصور بلا شك باتت تحمل مخاطر كبيرة إذا ما استُخدمت لتحقيق أهداف شخصية على حساب القيم والعلاقات الأسرية.

رئيس التحرير

1/2/2025

Exit mobile version