في الطريق إلى المقبرة (2)

نص بصري
تصدير وتذكير:
/كرٓاس من الاخبار والاشاعات بخصوص المرحوم وعائلتة .. ألٓفه وتناقله ورواه ..الأنذال، والحمقى، وبعض الأصدقاء.
موكب تشييع الجنازة
د. حمدي موصللي

توقّف موكب سياراتِ التشييعِ الذي زاد طوله عن خمسة كيلو مترات أمام أحد أكبر أبواب المقبرة الثلاثة .. ثم ترجّل المشيّعون، وهم بالمئات أو أكثر، وتناوب بعضهم على حَمل النعش وهزّه اعتقاداً منهم أن هذه الهزَّة تُحدث تأثيراً نفسياً طيباً لدى المرحوم تحثّه على الشعور بالتواصل مع محبيه وغواليه كما يزعم أحد مشايخ المدينة، والذي يشهد له مريدوه بعلومه الفقهية والدنيوية، والذين يأخذون عنه، ويمشون على منواله وطريقته، و كما أنهم سينالون الثواب و الأجر لقاء حمل النعش، و أنّ هذا الثواب والأجر سيؤول لهم هدية من عند الله تضاف إلى سجلٓ أعمالهم الدنيوية في الآخرة تحت بند حسنات اضافية في كتاب مبين.. يوم يبعث الناس من قبورهم أجثاثاً حين تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالها معلنة قيام القيامة، وبدء الحساب.. (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، أو قد يبتسم الحظ لواحد منهم، فيحظى بكرامة من كرامات هذا الرجل المحمول على الأكتاف (الذي هو أنا)، والمنسوب أو المشهود له بالكرامات، والظواهر الغرائبية الخارقة، وغير العادية، والتي كانت تظهر علائمها باعتياد دائم أثناء حياته المديدة، و التي من الممكن أيضاً أن تظهر ثانية بعد مماته، وخاصة لمن يعتقدُ بقدرة هذا المحمول المغفور له (الذي هو أنا) على منح الكرامات لمن يشاء، ووقت يشاء، وكيف لا؟! وهو سليل سلالة أولياءٍ خصٓهم الله بالتجلّي، والعرفان، والبصيرة، وكشف المستور، وافشاء الأسرار، واللعب بالودع، والبيضة والحجر، والضرب بالرمل، وفك السحر عن المسحور، ورجم الشيطان المنجوس، وتطبيب العقيم، وإخراج الجن من الملبوس، وقراءة الكفّ والفنجان، وشفاء الأبرص، والأعور والمنحوس، كما روّج عنه الدجـّالون والقوّادون والعاهرات، وأنصاف المسؤولين، وأرباع المثقفين من الموظفين في دوائر الحكومة، والذين يرون عادة في مواسم الاحتفالات، والأعياد الدينية، والوطنية والحزبية، والإنتخابات، وبيع الأصوات و شرائها، أو شراء صناديق الاقتراع وتزويرها ..
تحركت الجنازة على الطريق الترابية القصيرة التي توصل بين باب المقبرة، وجامع المقبرة (المُصلّى) من أجل الصلاة على الميت قبل الدفن..
-هنا لا بدّ من التذكير من أنَّ الجموع الغفيرة من المشيّعين الذين حضروا مراسم الجنازة هم خليط من الأقرباء، والأصدقاء والأحباب والعامة، وحتى الخصوم الذين عاصروا المرحوم (الذي هو أنا)، وذاقوا على يديه الأمرّين قد ظهروا فجأة في موكب التشيع، وساروا خلف الجنازة لا مَحبة بالمرحوم، أو ثواباً يكسبونه من جرّاء حملهم النعش.. بل ليتأكدوا من موته ودفنه في المقبرة! إنه الشر الذي لازمهم، وتخلّصوا منه أخيراً بالموت.. قال أحدهم لرفيقه هامساً: لا أصدق أنَّ صاحبنا المحمول الآن على الأكتاف داخل النعش، هو الميت بحق! إلّا إذا دفن حشراً في “جورة” القبر أمام أعيننا وانهال التراب عليه!!
– الله وأكبر.. صرخ الشيخ “معمو الحجي” الذي ظهر فجأة في موكب التشيع..
– “معمو الحجي”، هو رجل مميٓز بصفات، فهو صاحب اللحية المسترسلة طولاً على صدره، و بلونها البنّي المحمرّ، وعطره المسكي النافر التي تفوح رائحته القوية منه، فتجعلك تحسّ بوجوده عن مسافة بعيدة، والسبٓحة الطويلة التي يحملها، وحبّاتها الكبيرة التي تصدر بريقاً ضوئياً لامعاً في عتمة كالحة. يُسبّح فيها ويطقطق بحبّاتها، و يُدمدم أناشيد المديح لرسول الله المصطفى، ويبتهل متضرّعاً إلى الله بأسلوب تعبيري مدهش أقرب إلى التشخيص، وعينيه الغائرتين الواسعتين وحاجبيه الكثيفين المصبوغين باللون الأسود، و المنتفخين اللذين لهما القدرة العجيبة على الحركة في كل الجهات، بل وأكثر من ذلك يستطيع ترقيصهما بشكل يثير الانتباه والدهشة والضحك لدرجة يشدُّ الناظرين إليه، وخاصة من الأطفال والشباب خوفاً أو متعة ..ناهيك عن قامته المربوعة، وكرشه المتدلي أمامه يكادُ يَحجبُ عنه رؤية قدميه، وصندله (الحموي)، إضافة إلى ذلك الصندوق المقفل بقفل صغير صيني الصنع، والمشقوق من الوسط مثل (المطمورة)، والمخصص لجمع التبرّعات أو الإتاوات أو.أو. .. وعادة ما يحمله بشكل دائم في المناسبات الدينية، كالتعزية والختان والموالد والأعياد الرسمية وغيرها .. “معمو الحجي” أحد أهم وسيلة إعلامية و إعلانية مهمة في حياة المرحوم وعائلته، فهو صانع ماهر وحرفي من الطراز الأول في حَبك الحكاية، ورسمها، ومسرحتها على مسرح الواقع، فقد اخترع إرثاً من الكرامات والبدع والخوارق الغرائبية ونسبها لعائلة المرحوم “الذي هو أنا”.
– معمو الحجي: يا إخوان .. الفاتحة على روح المرحوم .. المغفور له .. العلاّمة.. مولانا قدّس الله سرّه المحمول على اكتاف المؤمنين الصالحين. قال ذلك وهو يرفع يديه نحو السماء متضرّعاً.
– توقفت الجنازة الراجلة قرابة الدقيقتين حتى أنهى المشيّعون قراءة الفاتحة، وإذ “بمعمو الحجي”، وبصوته المشروخ، وبأداء تمثيلي رهيب: يا إخوان .. بأم عينيّ هاتين اللتين لم تاكلهما الديدان بعد .. أقسم بأم عينيّ هاتين يوم كنت بصحبة ثلة من مشايخ ومخاتير الحارات، وأهالي المساقين الفارين من الخدمة العسكرية الذين تمّ القبض عليهم من مختلف المدن، وتكبيلهم وتجميعهم في محطات السفر المختلفة على طول خط “الترين” من أجل تسفيرهم إلى حرب البلقان “السفر برلك”.
– نعم يا إخوان .. صلوا على النبي المصطفى ..
المشيّعون: (بصوتٍ أقرب إلى الهمس) .. اللهم صلي وسلم على نبينا محمد، وعلى آل محمد، وعلى صحابة محمد أجمعين ..
– معمو الحجي: (وهو يرقّص حاجبيه ويرفع من صوته ويزيد في أدائه التمثيلي) .. نعم! نعم يا إخوان! والله! وتالله .. بأم عينيّ هاتين شاهدت “الترين” الحديدي .. هذا البغل العملاق .. كيف تحجّر في مكانه، وعلت صرير عجلاته وتطاير الشرار منها، وتوقفت عن الحركة، وخبا دخٓانه الأسود الذي يَنفثه في سيره، وأطفأت أنواره، ولم يستطع التحرّك بعدها.. نعم يا إخوان ..”ترين” الحجاز أصابه الفالج ..(يدندن بتوشيح ديني معروف).
أشرقت شمس المعاني
من سنا أسمى مقام
وزها قـمـر التداني
نـوره يجلو الظـلام
وصفت أوقات سعد
وبــدا خـير الأنــام
وشذا القمر وغنّى
بصفاء مـع سـلام
– يا إخوان : و ما جرى لا يصدق .. إنها القيامة.. ما إن توقف “الترين” حتى هجمت جموع الحاضرين على عربات “الترين” وأفرغوها من كل محتوياتها .. فهرب الشباب “الفراري” من جديد، وهرب معهم عدد من العَسس الجندرمة، وبعض ضباط الانكشارين، وسادت الفوضى المكان، وكأننا في يوم الحشر.
– وقتها! ..صعد الناس عربات القطار، واستولوا على ما فيه من أكياس الميرة والشعير، والطحين والعدس المجروش والزبيب، وخوابي الدبس وظروف السمن. وبعض جرار العسل، والخراف والماعز والدواجن بأنواعها، وانقلب المكان من ساحة وداع وبكاء وحزن إلى ساحة عرس وفرح .. وإلى هذا اليوم لا يعرف عن مكان الشباب “الفراري” والعسس وبعض الضباط الإنكشارين .. المهم هربوا من حرب “السفر بر” وهم أحياء .. (بصوتٍ عال مشروخ) صلّوا على الحبيب.
– بصوتٍ واحد ردّد الحضور: اللهم صلّي وسلم وبارك عليه وعلى آل بيته، وصحبه يا الله ..
– يا إخوان: (تابع معمو تشخيصه) بأم عيني .. وبهاتين الأذنين سمعت تصفير “الترين” استعداداً للتحرك بأمر من “اليوز باشي” الغاضب والذي توعد أهل المدينة بالعودة، والانتقام قريباً (صص..سيس أدب سيس.. عكروت ڤلن)..قال “اليوزباشي” لأحد الرجال المشاركين بالدبكة والفرح والغناء بعد أن أشار له هذا الأخير بأصبعه الوسطى باشارة منافية للحشمة رداً على تهديده.. ثم تحرّك “الترين” نحو اسطنبول، وقبل أن يختفي عن الأنظار صاح معمو الحجي: يا إخوان .. احزروا ماذا جرى؟! قولوا الله وأكبر ..
– كبّر المشيّعون بحماسة المنتصر .. الله أكبر ثلاثة مرات .. ورقابهم مشرأبة وعيونهم جاحظة وآذانهم مشنّفة .. ينتظرون حل لغز مأمور ..
– صاح معمو الحجي: يا إخوان .. كان المشهد عظيماً.. تصوروا! من عربة الترين الحجازي (الفركونة الأخيرة) ظهر الشيخ “ابو رحمو الفرواتي” وهو يترجل عنها، و ينفض الغبار عن ثيابه، و عباءته، و عمامته، ويردّد كلمات:
(يقلد صوت أبو رحمو) امش يا بغل ..الله لا يردّك .. “روحا بلا رجعة” .. ومن يومها ذهب “الترين” ومعه الانكشاريون العثمانيون إلى الأبد ..
– يا إخوان هل تعرفون من كان هذا الرجل الوطني الصالح الذي أوقف الترين عن الحركة بإشارة من إصبع يده؟
– ساد المكان صمت مُطبق والناس في حيرة وتساؤل .. ترى من يكون هذا الولي الذي أرسله الله ليخلّص الشباب من حرب ليس لهم فيها لا ناقة ولا جمل سوى الموت؟!
– كرر معمو الحجي: هل تعرفون من هو؟
– :نعم يا إخوان! إنه جَدُّ مولانا المرحوم قدّس الله سرّه .. إنه شيخنا الفرواتي الملقب بأبي عبدو.
– ردّد المشيّعون وكبٓروا: الله أكبر!! بركاتك يا شيخ فرواتي .. بركاتك يا كبير!!
– أحد المشيّعين المتنوّرين سأل: معقول يا سيدنا “الحجي” وقع هذا الأمر ..مستحيل؟!!
– ردٓ معمو الحجي: بل وأكثر .. يا مؤمن .. إنه ولي الله، ومامور من عند الله ..(متابعاً) هذا جد مولانا قدّس الله سرّه.. أما ماذا أقول عن والده وبركاته يا رجل؟ .. الفاتحة يا إخوان: ردّد مَعْمُو قائلاً ..
– تابعت الجنازة الراجلة سيرها بسرعة بعد أن أنهى المشيّعون قراءة الفاتحة مرةً تانية ..
– لحظات، وقبل وصول الجنازة إلى باب المصلّى في المقبرة.. تسمّـرت الجنازة للمرة الثانية في مكانها، وصرخ حاملوا النعش من حوامله الأربعة بأعلى أصواتهم .. اللهُ أكبر! الله أكبر! ..
– فجأةً تعالت أصوات المشيّعين بالتكبير من جديد .. اللهُ أكبر ..
– يا إخوان: انظروا كيف تسمّر هذا النعش وعَجز حاملوه عن السير به!
– نعم! هي إشارة من عند الله، وامتحان لذوي الأنفس الأمّارة بالسوء .. هي بركة خصّها الله بها العائلة، جدّه “الفرواتي ” من قبل، ثم والده من بعد، ثمّ هو من بعد بعد!..
– يا إخوان ماذا اقول عن والده “الفرواتي الأب” وأفعاله؟
– :نعم يا إخوان: من سبعين سنة أو أكثر بقليل مضت .. قبض عسكر الفرنساوي على والد المرحوم قدّس الله سرّه مع بعض أزلامه ممن كانوا سابقاً في صفوف (الجتا) هؤلاء الذين كانوا قطّاع طرق في أيام عسكر “العصملٓي”، وأثناء المجاعة والذين دبٓت النخوة، و الغيرة فيهم فيما بعد فتحولوا من (جتا) إلى ثوّار يدافعون عن الأرض والعرض بشراسة أيام الانتداب الفرنسي.
-أقسم: بالله وتالله على ما اقول يشهد .. من سبعين سنة مضت أو اكثر بقليل .. بأم عينيّ وقف أهل المدينة ومشايخها، ومخاتير الحارات والقائم مقام وقائد الدرك و معه الدرك والحاكم العسكري الفرنسي ليشهدوا إعدام الثوّار.. لكن ما حدث أمام فصيل الإعدام الفرنسي يشيب له شعر الرأس.
– يتوقف عن الكلام بسرعة، وينظر إلى الجمع بجحوظ متأملاً من هو أقرب إليه، وهو يرقّصُ حاجبيه .. لو تعرفون! قالها بهدوء مصطنع .. لو تعرفون يا إخوان.. ماذا حدث؟ صلّوا على النبي العدنان.
– : ألف الصلاة والسلام عليه .. ردّد المشيّعون ..
– يا إخوان: بعد محاكمة سريعة للثوار، والحكم عليهم بالإعدام رمياً بالرصاص، .. أمر “الكومندان” السيد “ماكرون” قائد فصيل الإعدام جنوده بإشارة من حربة سلاحه تنفيذ الحكم بإطلاق النار.
– مات جميع الثوار وعددهم خمسة .. نعم خمسة! إلّا واحداً .. الله أكبر!
– تعالت أصوات المشيّعين بالتكبير .. الله أكبر ..
– كان هذا الواحد مولانا “عزوز” والد المرحوم قدّس الله سرّه.. نهض واقفاً ينفض الغبار عن ثيابه .. ما حدث أذهل الفصيل، و سرعان ما ركع الجنود الخائفون الذاهلون أمامه على الأرض .. في حين تقدم مولانا “عزوز” والد المرحوم قدّس الله سرّه من “الكومندان” قائد الفصيل، الذي تأتأ بالكلام، وارتجف خوفاً ثم ركع، في ذات اللحظة.. (يتوقف معمو الحجي عن الكلام لحظات، وهو يتملّى الجميع.. ويَمدُ يده إلى جيب قنبازه ويسحبها بهدوء، وقد أخرج بضع طلقات ورماها أمام أعين الحضور، وهم في حيرة ودهشة أقرب إلى الفزع ..)
– نعم يا إخوان .. أخرج مولانا الرصاصات من جيب سترته وقدّمها له مبتسماً .. هذه رصاصاتك أعيدها لك، قال مولانا يا إخوان .. (بصوتٍ صاعق أطلقه معمو الحجي) الله أكبر!. عندها خرَّ الكومندان صريعاً ولم ينهض بعدها .. الله أكبر.
– الله أكبر.. كبّر المشيّعون وترحّموا .. منهم من هَمس بكلام مبهم، ومنهم من أخذته الحالة فصدّق وابتهل وبكى لدرجة التماهي مع الحالة ..
– مرة ثانية يتدخل أحد المشيّعين المتنوّرين سائلاً: يا شيخ معمو .. كيف تريد منا ان نصدق حادثة الكومندان الفرنسي وفصيله؟! زمن فرنسا ذهب وولى إلى لا رجعة منذ أكثر من سبعين عاماً .. وعمرك لم يتجاوز الخمسين سنة بعد؟! ثمّ كيف كنت حاضراً وموجوداً؟!
– ينضم متنوّر آخر للحديث .. يبدو أكثر حنكة ويسال معمو: يا فضيلة الشيخ “معمو” ..كيف شاهدت وبأم عينيك، بل وكنت حاضراً قبل مئة سنة (أيام العصملٓي) مع أهالي المدينة حادثة العصيان والهروب (الفراري) من القطار الذي أوقفه جد مولانا “أبو رحمو الفرواتي” قدّس الله سرّه، وبإشارة من إصبع يده .. تلك الحادثة التي تجعل “النافوخ” يطير من الرأس.. توكّل بالله يا شيخ؟!!
– معمو الحجي: (بصوتٍ مجلجل) أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!.. استغفر الله .. إنها البصيرة يا ولد .. إنها إحدى كرامات هذا المرحوم التي نقلتني بغمضة عين إلى ذاك الزمن لأشهد الحادثة.. بل لأشهد أكثر من حادثة .. إنه التجلّي والتماهي مع الذات الإلهية يا ولد .. استغفرا ربّكما .. الله عليكما ..الله أكبر! الله أكبر عليكما! .. الشكّ حرام، والظن حرام بالتابعين والأولياء .. (ردّد المشيّعون بأصوات عالية .. الله أكبر!!
– ثمّ بإشارة من إصبع معمو الحجي سكت الجميع .. وبحركات من حاجبيه وطقطقة سَبْحته .. أنشد وبقلبي حسرة ونظرة يمً المحبوب من فيه عقليو قلبي
دائم مسلوب مفتاح الحضرة بيدك
اغث مريدك
مولى الآنام يريدك
صبحة وغروب
– وصلت الجنازة أخيراً إلى المصلى .. في المصلى حدث أمر لم يكن بالحسبان!! أمر مفاجئ أمام باب المصلى فاجأ المشيّعين، وأدخلهم في حيرة، ودوّامة من الذهول المصحوب بالخوف لدرجة الفزع. أبى النعش أن يدخل بهو المسجد.
– فحاملو النعش الذين طار من بين أصابعهم، وارتفع سنتمترات، والذين تمسّكوا به بقوة جعلهم يظنون أنّ كرامة من كرماته قد حلّت على كل واحد شعر بذلك ولوحده .. الله وأكبر! صرخ بأعلى صوته الشيخ مندوب مكتب دفن الموتى ..ردّد الجمع الغفير وراءه: اللهُ أكبر! اللهُ أكبر! بركاتك يا مولانا ..
– صاح الشيخ ثانية وثالثة ورابعة بعد أن جاوزه النعش بسرعة .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله وأكبر.
– يا إخوان .. النعش يطير ..
صرخ “معمو الحجي” بأعلى صوته الذي فاجأ جميع المشيّعين، والذي أضفى حالة من الرعب والخوف سيطرتا على المكان …
– الله أكبر بركاتك يا مولانا .. يقترب “معمو الحجي” من مقدمة النعش ويضع كفه عليه .. بركاتك يا مولانا .. الناس كلّت وملّت ..سهل أمرها وتقبل عطاءها.. (يعم الصمت من جديد .. لحظات وينفجر معمو الحجي بالبكاء ثم بالضحك) ..
– يا إخوان: من كان منكم على جنابة أو لم يتوضأ فليخرج من الحَشد لكي يهدأ بال مولانا ويرتاح .. لا تجوز الصلاة على الميت، وأحد المصلين لم يتوضأ أو على جنابة!!.
خرج معظم المشيّعين وأغلبهم من المسؤولين، والتجار، وأصحاب الشركات، والمدراء، وبعض الإخوة من المسيحيين والسلك الدبلوماسي. المهم هدأت روح مولانا المرحوم قدّس الله سرّه والذي هو أنا .. فدخل النعش بحامليه بهو المصلًّى.
ـ التابوت المسجى فيه المرحوم (الذي هو أنا) .. هو الآن موضوع على بلاط ارض المصلّى أمام محراب الإمام للصلاة عليه.
(ما جرى لمولانا قبل الصلاة، وهو مسجّى في تابوته، و قبل لحظات من تجمّع الناس للصلاة عليه .. تنادى إلى سمع المرحوم (الذي هو أنا) المسجّى في التابوت أصوات تهمس استطاع تميزها، وحتى معرفة أصحابها.
– يقال انّ الميت، و هذا من باب الصلاح والتوعية وفهم أحوال الميت ومناقبه الخيّرة التي يستطرد بها أحد هؤلاء أمثال “معمو الحجي”، لدرجة أن أقرباء الميت أن أسرته يدخلون في غربة ممّا يسمعون عنه من غرائب الأمور، والأفعال، والكرامات المنسوبة إلى مرحومهم، وما قدّمه من خدمات تفوق التصوّر والعقل!!
قال معمو الحجي: إنّ الله يَمنحُ الميت قبل الدفن يا إخوان.. أضعاف درجات السمع!
– ثم أضاف وهو يستغفر ربه: نعم يا إخوان! من أجل أن يَسمع المرحوم منكم ما تقولون عنه من كلام فيه خير له أو شرُّ عليه.. وتابع معمو باعتداد الواثق: إنّ ما تقولونه في حقه من كلام خيًر يصبّ في صالحه .. فهو بالتأكيد لن ينال عذاب القبر، فعلينا أن ندعو له بالرحمة وقراءة الفاتحة!
– سمع المرحوم (الذي هو أنا) كل هذا الكلام من مولانا فأخذ من باب الفضول ينصت لكلام البعض قبل قيام الصلاة عليه.
________
– هوامش: “الترين” لفظة فرنسية .. تعني القطار.
– “الجتا”: لفظة قد تكون تركية الأصل وتعني اللصوص أو قطّاع الطرق .. وكانت مستخدمة حتى زمن قريب.
– “فركونة، فركونات”، عربة، أو عربات القطار ..
– “اليوز باشي”: رتبة عسكرية عثمانية.
– “الكومندان” رتبة ضابط عسكري فرنسي.
…
*الحلقة الثالثة والأخيرة في العدد القادم