قناطر

(كصيرة كودري حمرا)

روضة طه الطه

أرّقَ القَصْفُ عصرَ الأمسِ مَنامَ صغيرتي ملاك، وارتفعت حرارتُها، وراحت ترتجف وتهذي.

كانت لعثمة هذيانها نِصالَ وَجَعٍ يفوق طاقتي، ولم تعد كمَّادات الماء البارد تُجدي.. السّاعة الثالثة بعد منتصف الوجع، أصوات مولّدات الإنارة تقضّ منام الجميع.

تكتكات المحرّكات تتلاحق من كلّ جهة في هدوء اللّيل، وكان أكثرُها إزعاجاً مولّدة حنيف، التي كانت تحت نافذة غرفتنا تماماً، وهي أكبرُهن حجماً، وأعلاهنّ صوتاً، يتواصل هديرُها دونما انقطاع..

أطلَّ الدكتور حازم من شرفة بيته، وهو يصرخ: “كافي عاد، نريد ننام، عندنا شغل الصّبح، طفّي هالمولدة”.

وكان الجوُّ حارّاً كعادته.

منمنمات “توتول في المنفى”. رواية قصيرة ـ روضة طه الطه

في مثل هذه الأيام القائظة، ينامُ أهل الرّقّة في الحواش، والسّماويات، وشُرفات البيوت والبلاكين، إلّا أنّهم في هذه الظّروف لم يعودوا يتجرؤون على النوم خارج غرفهم، وحتى النّوم في الغرف أصبح غيرَ آمن.

ومن شرفة جيراننا الصّطاف أطلّتْ الخالة مجد تنادي: “يابا حَنيف، ترى تلفتْ أعصابنا طفّي مولدتك تا ننام”.

وما إن أطفأ حنيف مولّدته، حتى غطّى الهدوء سواد الليل تصحبُه نسمة ما قبل الفجر.

وقفتُ على البلكون أتوسّلُ الشمس أن تنهضَ من فراشها، لأصطحب صغيرتي إلى الطّبيب، وتحت البلكون، على الرّصيف كان اثنان يجلسان، يتحدثان عن نجمة تتحرك ببطء، يخفتُ نورها تارةً ويُضيء، سمعتهما، يقولان: “إنها طائرة تُراقبُ الأجواء في اللّيل” فارتجف قلبي، وعدتُ أعصر الكمّادات وأبادل بينها على جبين ملاك، وأنا أنُودُ من شدة النّعاس.

ومن مئذنة الجامع الحَمِيدي جاء صوت المؤذن يمجّد الله: “يا بديع السّماوات والأرض”.

ثم أخذ الأفق يتفتّقُ بحُمرة الشّفَق، وصرت أسمع عنين يمامات حيّ العجيليّ يَسري مع الضّحى، كأنّه هديل أمّهات حزينةٍ، لم تَشبع من النوم بعد!

أمسكتُ دفتر الهواتف، أُقلّبُ الصّفحات، علّني أجد هاتف الطّبيب، ولكن دون جدوى، وأخذتْ خطوات المارّة تدبّ في الحيّ، فارتديتُ عباءتي، وحملتُ ابنتي بين ذراعيّ، منحدرةً في نزلة التّجنيد باتّجاه عيادة الدّكتور محمّد الشهاب في شارع سيف الدّولة. 

 وصلت فجلستُ في مدخل البناية، وأنا أحتضن ملاكي، ولم يَعد بإمكاني فتْح عينيّ، أطبق النعاس على جفنيّ بشدّة، وأنا أتساءل: متى سيحضر الطبيب؟ وإذا بامرأة مُقبلة نحوي، كلّمتني قائلة: “شبيچ سرّاية” أجبتها: “ابنتي مريضة، أنتظر طبيب الأطفال” قالت لي: “كومي، روحي لبيتچ، ليش ظلّ دكتور هين! الما مات هَجّ”!

 وحملتُ صغيرتي بين يديّ، ومشيت حتّى وصلت نزلة المتحف، حيث سيارات الأجرة، لكنّهم رفضوا حملي، لأن الدّولة الإسلاميّة كانت منعت النّساء من ركوب التّكسي دون محرم! سِرت باتّجاه شارع المنصور، أقصد عيادة الدكتور نجم الرّجب في شارع الوادي، أمشي ببطء، وعباءتي تلتفّ على ساقيَّ وأكادُ أسقط، وهذا النّقاب يمنعني من التّنفّس ومن الرّؤية، وصغيرتي بين ذراعيّ تتّقد جمراً!

أشرْتُ لتكسي أجرة، فلم يتوقف، وأشرْتُ لسائقٍ ثانٍ وثالثٍ وما من مستجيب، فوقفتُ وسط الشّارع، قلتُ في نفسي: سأقطع طريقه، إمّا أن يدهسني وصغيرتي، وإمّا أن يقف، وفعلاً وقف أحدهم صارخاً: “هيه، يا مهبولة ناوية تبليني بحالچ” ركضتُ إليه متوسّلة: “أرجوك أن تقلّني إلى عيادة الطّبيب، ابنتي ترتعد جمراً “فرفض قائلاً: “دخيلچ ابعدي عن طريقي، ولا تخربين بيتي، شلون أوصلچ بدون محرم، تريدين يشحطوني عالحِسبة” فرجوتُه مرّة أخرى: “بنيتي راح تروح من إيدي ، كربانك بس وصلْنا، مشواري دقايق مو أكثر” فتابع مسيره وهو يردّد: “والله لون يشوفوني الملتحين أوصّل مرة بدون محرم ألا يعلكون مشنگتي عند السّاعة”  ومضى في طريقه.

مشيت وقرصُ الشمس يرتفع رويداً رويداً، وكنتُ ألهثُ وأنا أُحدّثُ ابنتي: “ما ظلّ شويّ ونصل” إلى أن وصلْتُ عيادة الطّبيب، وكانت هي الأخرى مُغلقة، فنزلت في شارع تل أبيض أجرّ خيبتي! وأخذتْ واجهات الأسواق تفتح أبوابها واكتظّ الشّارع بالمجبرين مثلي على الخروج، ودخلت صيدليّة، وطلبت مسكّن ألمٍ لصغيرتي، فأعطاني الصّيدليّ، وخرجتُ أواصل طريقي، وفي غضون لحظات عمّ الهلعُ المارّة في الطّريق، كانوا يصرخون: “جتّ، جتّ” ولم يكذّبوا خبراً، بم بم بم، ثم خَرَقَ نسرُ الوطن جدار الصّوت، وحلّق يشقّ بصوتِ طائرتِه زيج السّماء.. تكوّمْتُ على الرّصيف، وأنا أغطّي رأس صغيرتي بيدي، وأدفن جسدها بصدري، أحميها من الشّظايا، التي كانت تتطاير من كلّ مكان، لم تصرخ صغيرتي، وغاب صوتُها عنّي، وشعرت أن الطّائرة جزّتْ جلدة رأسي، ولم أعد أسمع من شدّة الضّغط على أذني، واختلّ توازني، وكاد رأسي ينفجر، وحاولْتُ جسّ طفلتي بيدي المرتجفة، أما زالت على قيد الحياة؟

 صرخ بي أحدهم: “يا مرة انتِ بخير؟ كومي على بيتچ قبل ما ترجع” حاولْتُ النّهوض إلا أنّ قدميَّ لم تحملاني، فبقيتُ أرتجف، حاولتُ تحريك ابنتي، لأتأكد أنها على قيد الحياة، وضعْتُ أصبعي على عنقها، ما زالت تنبض، مسحتُ وجهها بيدي المرتجفة، وكنت أتلعثم وأنا أطلُبُ منها أن تفتح عينيها، وفي هذه الأثناء كنا بالضّبط قرب حديقة الواحة في وسط المدينة، حاولتُ النّهوضَ مجدّداً، إلّا أنّ قدميَّ خذلتاني مجدّداً، وعلتْ أصوات سيّارات الإنقاذ، من إسعاف ومطافئ، والْتَمَّ حشد المُنقذين.

 كانت الضّربة على بعد أمتار، في شارع تل أبيض قرب محلات الأقمشة التي في زاوية صيدليّة هواري الحمّود، وجلستْ أهزّ ملاكي، ثم أراقب الحدث عن كثب، ودموعي على وجهي تنسكب، وذلك النقاب يخنقني، يا له من عبء ثقيل! أصبَحْتُ عاجزة عن الرُّؤية، وقد غطت نقابي أتربةُ الدّكاكين المنهارة، رفعتُ النّقاب قليلاً أريد الهواء، أريد أن أتنفّس، صرخ بي أحد الملتحين فجأة: “غطّي وجهچ يا حرمة” ورفع بندقيته في وجهي، فارتعشت، وصرخَتْ به امرأة: “حسبنا الله ونعم الوكيل” أشارتْ لي ملاكُ بأصبعها الصّغير لأعلى الشّجرة في حديقة الواحة، وهي ترتجف: “حمامةٌ حمرا، حمامة حمرا” وتدافع المنقذون العابرون في الشّارع، وعلتْ أصوات الفقْد ثمة من تنادي: “وليدي” وثمة من ينادي “أخي” ومن ينادي “جاري”  وتقدّم يافعٌ ينادي: “يا من شافلي حرمة لابسة كصيرة كودري حمرا مدگوقة بدگة الشّال، يا من شافلي أمي” رفعتُ رأسي بسرعة إلى الحمامة الحمراء التي ذكرتها لي ملاك، ووقع بصري على وصلة الكصيرة الكودري الحمرا المدگوكة بدگة الشّال، وأجهشت بالبكاء، ورفع اليافع بصره نحو غصن الشجرة، وصرخ: “هذي كصيرة أمّي” ولطم على خديه وعلى صدره، وحرث وجهه بأظافره جداول دم، وهو ينادي “يا يما يا يما، إش أقول لأخوتي الحز إذا سألوني وين تركت أمّك!” وصلت سيارات الإسعاف، وخرج خفافيش اللّيل من جحورهم، يعطون الأوامر للنّاس، أن يبتعدوا من موقع الحدث، وأخذت الأتربة المتصاعدة في الجوّ تهبط شيئاً فشيئاً على أحزان الموتى، على لوعات الفقْد، على دماء الجرحى والقتلى، على الأشلاء التي أخذوا يكنسونها بالكواريك، ويلقونها في أكياس سوداء، وكأنها جِيَفٌ وليست بشراً” مشيْتُ وصوتُ اليافع ما زال يتردد على مسمعي: “يا من شاف لي حرمة لابسة كصيرة كودري أحمر مدگوگة بدگة الشّال، يا من شاف لي أمي” و”يا يما يا يما إش أقول لأخوتي الحز إذا سألوني وين عفت أمك”!.

كاتبة سورية مقيمة في ألمانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى