إياد حسن
سؤال دائم يطرحه الزملاء في العمل عن سبب اختياري تعليم اللغة الألمانية للمرحلة الأولى، وهي الفئة المصنّفة بالأميين، وأنَّ هذا المستوى هو من أصعب المستويات التي لا يتخيلون أنفسهم أنهم ينجزونه يوماً ما، خاصة وأن الفئة العمرية لطلابنا تتراوح بين التاسعة عشر إلى ما فوق الستين سنة، وبالتالي فإن آلية التعلم لديهم بطيئة ومعقدة، علاوة على أن معظمهم لم يسبق له أن جلس ولا مرّة في حياته على مقاعد الدراسة.
التساؤل الذي يلحّ به الزملاء، هو كيف تتواصل معهم، على الرغم من أن غالبيتهم لا يتحدث لغتك؟ ناهيك عن التزامي المهني ببذل قصارى جهدي من أجل إيصال المحتوى التعليمي للطلاب، فإن هنالك التزاماً أخلاقياً يُشكل بالنسبة لي الرقيب الداخلي لتعليم شخص أمّي القراءة والكتابة التي تفتح أمامه عوالم حياة جديدة.
أن تمسك بيد أحدهم، وتعلمه كيف يخط الحروف حرفاً حرفاً، وكلمة بعد كلمة لهو شعور استثنائي لا يصل له إلا القليل من البشر. وقمّة السعادة لدي عندما أقارن حالة طلابي في بداية الدورة الدراسية مع حالتهم في نهايتها.
التواصل اللفظي يشكل جزءاً صغيراً من التواصل مع الآخرين، بينما تلعب لغة الجسد والإشارات والإيحاءات الدور الأكبر في عملية التواصل. التحدث مع بعضنا البعض يشبه بناء جسر بين ضفتين، جسر محبّة قبل شيء، بغض النظر عما أقوله للشخص الآخر، أو لغة التواصل التي استعملها، فإن حقيقة أنني عندما أتحدث معه تعني أن بيننا علاقة، وأن لدي شيئاً لأخبره إيّاه، وأنني أريده أن يفهم شيئاً ما. التحدث يعني فتح عالمك الخاص ومشاركته مع الآخرين. أو على الأقل فتح نافذة تطل على الآخر، بهذا المعنى، تخلق اللغة مساحة مشتركة، وتجعل عالمي مشارِكاً ومشترَكاً، وهذا ينطبق على اللغات المنطوقة المتنوعة، وكذلك على لغات الحب المختلفة.
في كتاب كنت قد قرأته في التسعينيات من القرن الماضي للكاتب الأمريكي جاري تشابمان بعنوان “لغات الحب الخمس: كيفية التواصل بنجاح في الزواج”. فيما بعد تبعها بعدّة كتب: لغات الحب الخمس للعائلات وللأطفال وللعازبين. فكرة تشابمان الأساسية قائمة على مقارنة لغة الحب الشخصية بلغة أجنبية. عندما يلتقي شخصان يتحدثان لغتين أو لغات أم مختلفة، سيكون التواصل مع بعضهما البعض صعباً إن لم يكن مستحيلًا. إذا تعلم أحد الطرفين لغة الآخر، فسيكون التواصل ممكناً، ولكن بلغة واحدة فقط. في علاقة التعلّم والتعليم كلا الطرفين لديه لغته الأم، الطالب والأستاذ لكننا نتواصل بلغة ثالثة نوظفها للتواصل اللفظي، وكأداة لنقل المعرفة وهي اللغة المفتاح للولوج إلى المجتمع المحيط.
في المواقف الصعبة، لا يمكن للغة الأجنبية أن تحل محل اللغة الأم أو اللغة الخاصة. وحسب تشابمان في حالة الشريكين، هذا يعني أنه من أجل التواصل الأمثل بينهما، يتعلم كلاهما أيضاً اللغة الأم للطرف الآخر. وفقاً لنظريته، سيشعر كلاهما دائماً بأنه يفهم الآخر بشكل جيد. هذا يعني تعلم لغة الشخص الآخر الذي أريد أن أعبّر له عن حبي دون أن أنسى لغتي، لأنني ما زلت أمارس حياتي بجوانبها المهمة بشكل أفضل بلغتي الأم. وأيضاً باللغة الأم أستطيع التواصل العاطفي والتعبير بشكل أمثل عن مشاعري وانفعالاتي.
ننصح طلبتنا ألا يتحدثوا مع أولادهم باللغة الأجنبية التي يتعلمونها الآن، بل حصراً باللغة الأم وذلك لعدّة أسباب؛ أولاً لأن الأولاد يتعلمون اللغة الأجنبية بشكل صحيح ولوقتٍ كافٍ في المدرسة، وثانياً؛ لأن الأهل لا يتقنون اللغة، وبالتالي سيقعون في كثير من الأخطاء التي يصححها الأولاد، فتهتزّ قاعدة التواصل بين الأهل والأبناء، وثالثاً وهو أهم شيء هو عدم فقدان العلاقة العاطفية مع الأولاد وبالتأكيد تعلم لغة الأولاد للغتهم الأم يشكل لهم غنىً معرفياً، وتفتح لهم في المستقبل آفاق عمل جديدة.
في التطبيق العملي تتمثل عدّة جوانب من التي ذكرها تشابمان في كتابه، في التواصل مع الطلاب والطالبات وبين الطلاب والطالبات، وهذه دلالة على حب العمل الذي نقوم به وهو التعلّم والتعليم.
إظهار الاستعداد للمساعدة والثناء والتقدير للجهود المبذولة من خلال الأنشطة الجماعية كأوقات الطعام والشراب في أثناء الاستراحة وإبداء الرقّة والحنان في التعامل، أو حتى تبادل الهدايا التي لا يشترط أن يكون لها قيمة مادية بقدر ما لها قيمة دلالية، هي ألفاظ عفوية نتعلمها كل يوم ربما يستخدمها أحد الأطراف في غير سياقها، لكنها تبعث على الفرح، وتؤثر فعلاً كما لو أن الأشخاص يتحدثون بلغتهم الأم.
هي أشياء وتفاصيل يومية صغيرة نعيشها بوعي، أو من دون وعي. إنها تلك الإيماءات والطقوس الخاصة.. هي لغة مفرداتها صادقة نابعة من القلب دون مخاتلة.
يبقى القول إنّ تعلم اللغة يخلق جسوراً مع الثقافات والتقاليد والبلدان الأخرى. كلٌّ منا يحمل خلفه ثقافة غنية واللغة هي الحامل لهذا الكم من الثروة، عندما يعيش الأشخاص مع لغات مختلفة معاً، غالباً ما يكون تعلم اللغة الأخرى والتحدث بها شرطاً أساسياً، ليس فقط ليعيشوا مع بعضهم البعض، ولكن أيضاً ليعيشوا بجوار بعضهم البعض.
روائي سوري مقيم في فيينا