فنون

الفيلم الوثائقي طحطوح.. ذكرى ترمّم ذاكرة

بشرى بن فاطمة

“كيف نموت نخليهالك” بلهجته الجزائرية المازحة كانت الجملة التي قالها “طحطوح” لأهل القرية وهو يحثّهم على العمل ومساعدته في الترميم بمثابة التجلي الصارخ بالحلم العنيد للعودة ولاسترجاع مسقط رأسه “أفيغو”، كان يعلم أن كل حلم يحتاج من يؤمن به ويستمر فيه وحتى يستمر يجب أن تكون الحركة حثيثة والخطوات ثابتة والإصرار عنيد كحجر يحكي تاريخه المتروك في القرية لمن يحمل شعلة ذلك الحلم ولمن هو قادر على إكمال رحلة الترميم  حتى الاعمار هي هجرة من نوع مختلف هجرة إلى الداخل إلى الذاكرة إلى الذكريات إلى تفاصيل النشأة الأولى قبل مرور الخراب أرادها المخرج محمد والي ليحكي ويحاكي ذاكرة العم حسان في الفيلم الوثائقي “طحطوح”.

“طحطوح” فيلم وثائقي للمخرج الجزائري محمد والي، حاز الفيلم مؤخراً على جائزة الوهر الذهبي بالدورة الثانية عشر لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي، وهي جائزة اعتبرها والي مهمة جداً من الجزائر وطنه بعد أن حصل على عدّة جوائز خارجها في مصر ولبنان.

وطحطوح يعيش في قرية أفيغو الواقعة في بلدية ثنية النصر ولاية برج بوعريريج هجرها سكانها سنة 1994 بعد تدهور الأوضاع الأمنية في ذلك الوقت نتيجة للارهاب في فترة ما يسمى بالعشرية السوداء وهو ما جعل فكرة الفرار ملاذ السكان بحثاً عن الأمان في أماكن أخرى، عاد طحطوح إلى أفيغو بحثاً عن ذكرياته وترميما لذاكرته وقريته محاولة أن يتكامل مع الفكرة ويستعيد حضوره في مكانه الأول متجاوزاً هذا الفقد الإنساني وهي تساؤلات طرحها والي ضمنياً عن تناقضات الخواء في الأمكنة والامتلاء في الذاكرة تلك الرؤية الموجعة حسيّاً الدافعة ضمنياً لاستعادة الذاكرة وهي دعوة لكل مؤمنة بالذاكرة لاسترجاعها خاصة وأنه توجد أكثر من 200 قرية مهجورة في الجزائر لنفس الأسباب.

نهاية الأزمات هل تعالج خدوش الذاكرة

بجسده المشدود لفرط المجهود وعينيه التي تحمل ذاكرة من محبة لقريته المهجورة ترك “طحطوح” الحلم والعناد والعزيمة التي لا تفنى رغم توقّف نبضه، فلم يكن ما قاله مُجرّد جملة هزلية مزح بها ولكنها أصبحت حلما و”أيقونة” من أجل لملمة الذاكرة واستعادة القرية المهجورة “أفيغو” التي حملها على كتفيه ولم يقتنع أبدا بأسطورة سيزيف ولم ير عمله عبثياً بل شاهد جدواه في الذكريات التي تلتهم تفاصيل حديثه الذي كان يقطعه عندما يغصّ بالدمع، ويعود ليحمل الصخر والحجارة ويصرّ وحده على البناء، قراراً وإقرار لإعادة ترميم ذاكرته وقريته بعد أن هجرها سكانها الذين تضرّروا من الفترة السوداء لتاريخ الجزائر .

لم يكن المخرج محمد والي وهو يقدّم لنا الفيلم الوثائقي “طحطوح” مُخرجاً بقدر ما كان مُشاهداً أيضاً يسرد بدوره القصص ويقدّمها بصرياً في صور متناثرة ينتابه ما ينتاب طحطوح من حيرة وشجن وإصرار بين الكادر العام للملامح والوجوه وبين التفصيل الطبيعي للمكان الساحر بكل ما يحمل من وجع الخواء وعناد الحلم ورهبة الطبيعة وجمالها.

 كل ذلك الاكتمال استكمال لمسيرة الترميم وتلك القرية انعكاس وطن يحتاج سواعد مؤمنة بالذاكرة والأرض بالتاريخ القديم جدا في ثباته ليمحو حزن التاريخ الحديث بين ذاكرة المجاهدين والسعي لتحرير الوطن وخدوش العشرية السوداء، لتقع المفارقة في حب الوطن وتهجم العبرات على عبراته ليخبرنا تفاصيل الأرض وخيراتها يسترجع ذاكرة المواسم والحصاد وخبز القرية وأفراحها وعائلته وأصدقائه وكأنه يصوّرها مجدّدا ويحاول أن يحملها خوفا من ضياعها.

 ذلك التصور البصري التوثيقي يعكس أسلوب وطبيعة المخرج محمد والي في سرد مختلف التفاصيل التي يقدّمها في أفلامه الوثائقية فهو لا يقدّم توثيقاً بقدر ما يقدّم وثيقة مصوّرة مختلفة الأوجه والرؤى والتفاصيل والاحلام يعرف تماما كيف يحوّل الحكاية إلى انتماء متعدّد الاتجاهات التي تتنوع فيها الجغرافيا الجزائرية، ينعكس فيها بمراياه ومعها حاملاً التنوع والحنين والذاكرة والتنقّل بين جبال وصحاري.

في “طحطوح” أراد محمد والي أن يجيب على سؤال أساسي في رحلة النبش التي دامت دقائق حركتها تستدرج الصخب بصمت بين لحظات السرد هل تعالج نهاية الأزمات خدوش الذاكرة وكيف تُنهي ثقل الحنين الخاوي بين الملامح والأمكنة هل تعيد لحظات التلاحم مشاعر الاندماج والتعايش، يحاكى والي الروح بالذاكرة رغم البساطة التي تبدو للمتلقي وهو يُشاهد الفيلم بشكل بسيط ومألوف وطبيعي بلا تداخلات ولا مؤثرات وحدها الحركة والأصوات وحدها الكاميرا تعرف منافذ العمق بتفاصيلها الحسية جدا وكأن المشاهد يحتسي الشاي في الفضاء أو يحمل هو أيضاً حجارة ليرمّم معه المنازل، هذا السكون يحمل ضجة مسموعة من العمق وصوراً أخرى تسبق الصورة التي يقدّمها ويحرّك معها الكاميرا ليجاري حركة العم حسان.

إن الفيلم الوثائقي له قدرة على استنطاق ذاكرة من ذاكرة في محاورة داخلية تشبه الترحال أبعد في قراءة المنطق الحسي والادراك الذهني وهي رؤية استطاعها محمد والي بحرفيّة أسّست فضاء خاص بين الترميم فعلاً والترميم ذاكرة تقع الأحلام فينا أو تقع منا ولكنها تستمر كما طحطوح أيقونة لا تهدأ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى