مصباح الدروبي.. فنان يرسم الوجدان بريشة ساخرة

عبد الكريم البليخ

على ضفاف الفرات، في مدينة الرّقة، وُلدت موهبة الفنان التشكيلي ورسام الكاريكاتير المحامي مصباح الدروبي، حيث تفتّحت عيناه على ألوان الطبيعة وسحر الطفولة الذي كان يمزجه بخياله الجامح. منذ الصغر، عشق الألوان، فكانت شخوص المجلات الطفولية التي اقتناها من مصروفه البسيط، نافذته الأولى إلى عالم الرسم، حيث بدأ بتقليدها وإعادة رسمها حتى أصبح يتقن تفاصيلها.
لم تكن موهبته مجرّد هواية عابرة، بل شغف متقد ترسّخ أكثر حين رسم على جدار مدرسته، فتجمهر حوله التلاميذ إعجاباً، ولفت نظر المدير الذي شجّعه على تطوير موهبته. في تلك الفترة، التقى بالنحات الراحل أيمن الناصر، الذي رأى في الطفل موهبة واعدة، فأخذ بيده وعرّفه على المدارس الفنية المختلفة، من الواقعية إلى التكعيبية، وفتح له أبواب عالم فني زاخر بأسماء مثل فان غوخ، دافنشي، وبيكاسو.
لكنَّ الدروبي لم يكتفِ بالمعرفة النظرية، بل كان يبحث عن بيئة تحتضن شغفه، فالتحق بمعهد الفنون الذي يديره الأستاذ فواز يونس، وهناك شكّل مع زملائه مجموعة “ماري للفنون”. كان الكاريكاتير بالنسبة له أكثر من مجرّد رسم؛ كان وسيلةً للتعبير، وصوتاً ناقلًا لهموم الناس. تأثّر بأعمال الفنان الكبير علي فرزات، وبدأ بجمع رسومه المنشورة في الصحف، ليتعلّم من خطوطه الساخرة كيف تكون الريشة خنجراً ناعماً يلامس الوجدان ويعري الواقع.

رغم عشقه للفن، اختار دراسة الحقوق، ليسير على طريق موازٍ بين المحاماة والرسم، وكأنما كان يبحث عن العدالة في كلا المجالين: في القانون وفي الفن. فكان فن الكاريكاتير بالنسبة له مرآة المجتمع ولسان حال المظلومين، يعبّر عن قضايا الناس ببساطة الخطوط وعمق الفكرة.
كانت انطلاقته الفعلية في أواخر التسعينيات، عندما شارك في معارض مشتركة لفناني الرقة عامي 1997 و1998، حيث عرض أعمالًا كاريكاتيرية لاقت صدى واسعاً. شجّعه النجاح على مراسلة الصحف والمجلات، فبدأت رسومه تجد طريقها للنشر في الصحف الرياضية السورية، ثم امتدت إلى الصحافة الفلسطينية والخليجية. أدرك حينها أن الفنان الحقيقي هو من يلتصق بالناس، يشعر بهم وينقل معاناتهم بريشته.

لم يكن الكاريكاتير وحده مجاله الإبداعي، بل اتجه أيضاً لدراسة فن الغرافيك في مركز الفنون بحلب، تحت إشراف سعيد طه والفنان حنيف حمو، فتعلم كيف تمزج الخطوط المتداخلة والكتل اللونية لإنتاج أعمال تحمل في طياتها العمق والخيال. كما تأثّر بأعمال خزيمة علواني وغيرهم من الفنانين البارزين في هذا الفن.
ورغم أنه كان غارقاً في عالم المحاماة، إلا أن الفن ظلّ شريكه الذي لا ينفصل عنه. كان يسهر الليالي لينهي لوحة، أو لينحت ملامح شخصيّة ساخرة تعبّر عن الواقع المعاش. كانت الأحداث السياسية والاجتماعية، من لبنان إلى فلسطين، ومن العراق إلى اليمن، تغذّي حسّه النقدي، وتلهمه لإنتاج أعمال تنبض بالسخرية اللاذعة، حيث باتت رسومه شهادةً بصرية على عصر مضطرب.

مع مرور الزمن، وتراكم التجربة، بدأ يتّجه لرسم الوجوه بأسلوب كاريكاتيري، مركزاً على ملامح الشخصيات الشهيرة، من الفنانين والممثلين، إلى جانب رسم النساء. كان يرى في المرأة أيقونةً فنية، تستحق أن تُرسم كزهرة، فراح يقدّمها بأساليب تمزج الجمال بالرمزية.
لم يكن منفصلاً عن جذوره، بل ظلّ يستلهم التراث، يعيد صياغته بروح حديثة تربط الماضي بالحاضر، وتستشرف المستقبل. فالفنان في نظره هو ابن بيئته، مرتبط بمكانه وزمانه، ينقل وجدان مجتمعه عبر فرشاته.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن في دروب الفن، باتت أعمال مصباح الدروبي تحمل إرثاً بصرياً مميزاً، نُشرت رسومه في صحف ومجلات مثل الاتحاد الرياضي، الموقف الرياضي، نضال الشعب، الرافعة، شبابيك، الاتجاه المعاكس، المدار العراقية، الهدف الفلسطينية، البيارق المعلمين، البعث، الثورة، والجسر الإلكتروني الإماراتية منذ عام 2018. كما كتب قصصًا للأطفال، نشرت في “سعد” الكويتية و”سامر” اللبنانية، إلى جانب مقالاته التي لاقت رواجاً في الصحف العربية.
الفن بالنسبة له ليس مجرد خطوط وألوان، بل هو حالة عشق، ومسيرة بحث عن الحقيقة والجمال، وهو في النهاية مرآة تعكس وجه الزمن بكل تناقضاته. هكذا كانت رحلة مصباح الدروبي، وهكذا ستبقى ريشته شاهدةً على وجدان الإنسان وقضاياه.
