عبد الحميد الخلف الإبراهيم
توفّي في قرية المشتاية بريف حمص يوم السّبت الواقع في الخامس من شباط فبراير 2022 أحدُ أبناءِ قريتِنا، العمّ أبو جورج مجيد مخّول، رحمَه الله.
واضح من اسمه أنّه ليس مُسلماً، فهل كان في قريتنا مسيحيّون؟ نعم، وكان فيها يهود أيضاً!
أمّا اليهود فلم يكونوا يقيمون في قريتنا، كان بعضهم يزورها أيّام الحصاد فقط، ليقبض حصّته من إنتاج الأرض التي اشتراها دون علْمِ أهلِها، وأهلُها فيها، في الفترة الانتقالية في العهد العثمانيّ من عصر الرّعي البدويّ إلى عصر الزّراعة الشّاويّ!
وكان من بين اليهود، كما أسلفت، موسى دايّان الحلبيّ، الذي أشيع عام 1967، بسبب اسمه أنّه وزير الحرب الإسرائيلي، ودايان الإسرائيليّ أوكرانيّ الأصل لا حلبيّ.
وقد عرفْنا ونحن صِغارٌ العمّ مجيد مخّول واحداً من أبناء قريتنا، وصاحبَ (مصلحةٍ) فيها، وكلمة (المصلحة) مُصْطَلَحٌ يُطلق على (مكان الآلات) الزّراعيّة، ثمّ تطوّر المصطلح ليعني (العملَ الزّراعيّ) نفسَه، ثمّ توسّع معناه ليشمل (العمل) بشكل عام، فيقال لصاحب العمل (عنده مصلحة).
وكان أبو جورج يستأجرُ مساحاتٍ واسعةً من الأراضي البعليّة، يقوم بزراعتها نظيرَ نسبةٍ من الإنتاج يعطيها لأصحاب تلك الأراضي، ونظيرَ إعانةٍ أو سُلفةٍ يقدّمها لهم في فترة السُّبات الشّتويّ التي تعوّدُوها في انتظار المطر.
ثمّ إنّه اشترى لنفسه أرضاً زراعيّة بعليّة من بعض أخوالي، وصار واحداً من أهل القرية، يعرف بيوتَها جميعاً، ويزور كثيراً منها، ولا تتحرّج نساء القرية من مجالسته، بما عُرف عنه من وَرَعٍ وأمانةٍ وأخلاقٍ كريمةٍ، وما عُرف عنه من احترامه للتّقاليد الدّينيّة، مع التزامه بدينه.
في إحدى المرّات صدف أن كان عملُه الزّراعيّ موافقاً شهر رمضان الكريم، فأقام في بيتِنا أيّاماً، للصّداقة التي بينه وبين المختار، فكان يستيقظُ معنا في السّحور، فيتسحّر مثلنا، ويصوم، وكان أبي يقول له لدى عودته من العمل عند العصر: يا أبا جورج أنت لست مُلْزماً بصيامِنا، والأكلُ موجود، والحمد لله، ألا نحضر لك طعاماً؟ فيرفض بشدّة، ولا يأكل حتى يسمع أذان المغرب ونفطر معاُ!
كان بيتُه يسمّى (مصلحة مجيد)، ويقع بجانب المدرسة الابتدائيّة القديمة في القرية الشّماليّة الغربيّة، وقد اشتراه من عمّنا المرحوم الحاج أحمد العبيد العويس، الذي انتقل متوسّعاً إلى بيت جديد.
وثمّة مصالحُ أخرى عرفناها صغاراً في القرية منها (مصلحة المحمّد) وكان مقرّها يبعد عن القرية بُعْداً نسبيّاً خلافاً لمصلحة مجيد، ثمّ صارت بعد حين ضمن القرية على طرفها بيتاً للحسّون الخلف، عندما وصلها التّوسّع، ومنها مصلحة (جورج الصّقعان) ومصلحة (زاوين) ومصالح أخرى موسميّة على أطراف القرية، وفي القرية الجنوبيّة الشّرقيّة.
ولأنّ المصلحة ارتبطت في بدايتها بالآلات الزّراعيّة فسأذكر ما أتذكّر من الآلات التي كانت في مصلحة مجيد.
كان في مصلحة مجيد جرّار زراعي (تراكتور) فيرغـسون Ferguson، ومحراث ملحق بالجرّار (دسك)، وبذّارة حبوب، وحصّادة Johndeere، وقد اشتهرت هذه الآلات باسم (تركتور مجيد) و(دسك مجيد) و(بذّارة مجيد) و(حصّادة مجيد).
وما زال تراكتور مجيد مودعاً في واحدة من قرانا إلى الشرق من حمّام التّركمان.
ولا أظنّ انّ أبا جورج كان واسع الثّراء، ولعلّ الأموال التي كان يعمل بها كانت لأقاربه أو لأصدقائه من أهل المشتاية أو غيرها في شركة مساهمة مغفلة غير مسجّلة، والله أعلم.
ولا أظنّ أنّنا رأينا جرّاراً زراعيّاً يقيم في قريتنا قبل (تراكتور مجيد)، إلّا إذا كان جرّار الخلف الإبراهيم (الجنزير الرّوسي) الذي يُقاد باللّاويات قد سبقه.
والأمر نفسه ينطبق على (حصّادة مجيد) إذْ لم نر حصّادة مقيمةً غيرَها، إلّا إذا كانت (حصّادة البارون) صهر (المدام أليس) صاحبة الكازيّة الأقدم في تل أبيض، سبقتْها، وكان البارون شريكاً لمحمّد وخليل المصطفى، رحمهما الله، في مشروع (مصلحة) زراعيّة بكلّ آلاتها.
وكانت حصّادة مجيد تقيم بعد موسم الحصاد قرب بيته أو مصلحته، ثمّ صارت تُودع في حوش الخليل المصطفى لحمايتها من العابثين من أولاد القرية، عندما يترك العم مجيد القرية بعد فترة الحصاد والفلاحة والبذار.
وكان يشارك أبا جورج الإقامة في القرية في موسم العمل ثلاثة هم: أخوه (أبو إلياس) والد الدّكتور إلياس مخّول الذي كانت عيادته في الرّقّة بشارع تل أبيض أو الوادي، والمكنسيانان (موسيه) و(شكري) المشرفان على تسيير الآلات وإصلاح أعطالها الطّارئة التي تعتريها في العمل.
وكان أبو إلياس وموسيه وشكري معروفين في القرية أيضاً، ومازلت أحفظ كلمة موسيه في النّساء، عندما سمع من يقول: إنّ النّساء كلّهنّ واحد، فاستنكر قائلاً: كيف؟ هلّأ عدلة الملوط مرة، وسميرة توفيق مرة!
وعدلة الملّوط رحمها الله، واحدة من جدّاتنا العسّافيات كانت ثمانينيّة في ذلك الحين، ترتجف وهي تمشي لكِبَرِها، وكان أبي، رحمه الله، إذا رآها يمرّ بها، ويستوقفها ليقبّل يدَها، وتُقبّله، ويسألها عن حالها وصحّتها.
وكان مجيد مخّول يعمل بعد موسم العمل الزّراعي ممرضاً في عيادة الدّكتور درويش مرداش في الرّقّة، والدّكتور مرداش أحد أقدم ثلاثة أطبّاء في الرّقّة، والآخران هما عبد السّلام العجيلي وسركيس سنجار.
أذكر أنّه كان يعاجلني لتخفيف آلامي بحقنة (الآفافورايت أو الآكابيل) في عيادة الدكتور مرداش، وكنت أعاني يومها من آلام داخليّة كانت، والله أعلم، من مضاعفات مرض البلهارسيا الذي أصبت به مرّتين.
ولعلّ عمله في التّمريض هو الذي جاء به إلى الرّقّة من قريته (المشتاية) بوادي النّصارى في حمص، وربّما كان تعرّفُه على المرضى من أهل حمّام التّركمان الذين يتعالجون لدى الدّكتور مرداش باباً لدخولِه قرْيتَنا، ليصبح واحداً من أهلها، وربّما كان من طاقم المركز الصّحيّ القديم الذي كان في القرية قبل ولادتنا، ولست متأكّداً من ذلك.
وكنت أظنُّ أنّ المحامي جورج بن مجيد لا يعرف الرّقّة، عندما رأيتُه أوّلَ مرّة في قريتنا، في بيت خالي إبراهيم الأعرج الشّيخ، رحمه الله، في يوم من أيّام الصّيف، وقدّموا لنا فواكه في مائدة مشتركة، فتناول قليلاً منها، وتراجع في مجلسه، فراحوا يلحّون عليه أن يتابع، وهو يشكرهم، فلمّا زاد إلحاحهم قال: (عَجَلْ غَلا)!
فوجئت بهذه الجملة التي نطَقَها، كما ننطقها تماماً، وعرفت بعدَها أنّه نشأ في الرّقّة، وتعلّم فيها، فصار شِبه شاويّ.
وقد زرت بيت أبي جورج في الرّقّة، قريباً من مدرسة أبي تمّام، كما زرته برفقة ابن خالي المرحوم تركي الخليل، في قريته (المشتاية) في ريف حمص، وعَرَفْت كرَمَه وطِيبَه وخُلُقَه.
أخذَنا يومها عند العصر إلى الوادي الذي يمتلك فيه أمتاراً من الأرض، فقطفْنا من فواكهِها التّين طازجاً، وشربنا من نبع مائِها اللّذيذ، الذي ينبثق من صفحة الوادي طبيعيّاً بمقدار حنفيّة. سألته أيمكننا الصّعود إلى ذلك الجبل العالي المجاور للمشتاية، فقال لي: هذا أمرٌ لم يفكّر فيه إلّا أبوك،
عندما زارنا قبل خمسين عاماً!
ولم يقدّم لنا أبو جورج الخمر في العَشاء، فسأله أبو إلياس: ما عندكم عَرَق؟ فأجابه: لا، فقال: هاتولي كأس لبن، لا أستمتع بالعَشاء دون أن أرى الكأس الأبيض أمامي! فجاؤوا لنا بشراب اللّبن، وظننته عَرَقاً، وشربْتُ منه، فوجدته لبَناً، ولم يشربْ أبو إلياس، بل استأنس بالبياض على العَشاء.
تعرّض أبو جورج في قريتنا لما يتعرّض له كلُّ أهل القرية من خلافاتٍ وتجاوزاتٍ وأطماعٍ ونِزاعات، قابلها كلَّها بالرّضا وبطيب الخُلُقِ إصلاحاً لذات البين.
رحم الله أبا جورج وجزاه كلَّ خير، رأيته يتصدّق على المحتاجين، ويتنازل عن حقوقه للآخرين، ويساعد المساكين، وممّا عرفْته أنّ عراقيّاً هو وَهَيِّب الرّزَيِّج، كان من أهل القرية أيضاً، ولم يكن يريد أن يتركها بعد حركة 23 شباط العتيدة كما فعل عراقيّون – سوريّون سواه، وظلّ فيها حتّى أفلس تماماً، فقدّم له أبو جورج ما وصل به إلى العراق.
شاعر وكاتب سوري مقيم في الدوحة