لا ديمقراطية بلا عَلمانية للتصدي للأصوليات المُتطرفة
*الفكر الوهّابي رسخ أعمدة الجهل والتميّز الديني والعُنصري في عالمنا العربي ما يعني تحجّر أزّمة الهوية العربية وانعزالها!
*تنقيح مناهج التعليم من بعض الموروثات حتى تحقق المجتمعات العربية انتصارها على الفكر الأصولي الديني الذي دمّر بعضها وما زال ينتشر!
*أغلب المُثقفين العرب لم يقوموا بدورهم حيال أوطانهم بل سعى بعضهم على تظليل الجماهير والمتمثل في الإرهاب الفكري الذي ينتهجه الأصوليين داخل بلادنا العربية!
*للخروج من الإرهاب الفكري الذي انتهجه الأصوليون يستلزم تحالف المُثقفين والمعنيين بقضية الثقافة والتنوير
*لا سُلطان على العقل إلا العقل نفسه.. وينبغي أن يكون أي تنظيم عقلاني إنساني خاضعاً للعقل
*ابن رُشد أدخل مفهوم التأويل في المنطق وهو لم يكن وارداً لدى أرسطو
*هُناك معنيان للنص الديني أحداهما ظاهر والآخر باطن
عمر إبراهيم محمد
الفيلسوف والمُفكر والباحث والكاتب المصري الدكتور (مُراد وهبة)، أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس وفيلسوف الفلاسفة كما يُلقبه البعض، أحد أكثر الشخصيات المصرية والعربية دراسة ومعرفة بأغلب التيارات الفكرية والفلسفية، ومعني بقضية العَلمانية ومدى تصديها للأصولية الدينية.
تغوّل في التُراث والأدب، وعشق النقد والفلسفة، أبحر ورسا من خلال أفكاره على شواطئ كثيرة، تجاوز التسعين من العمر، وما زال يتمتع بروح الشباب، ومؤمناً بالحوار والإصغاء ومنطق الحُكماء والفلاسفة، كما أسس الجمعية الدولية (لابن رُشد والتنوير) عام (1994)، وهو عضو الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية، إضافة إلى المجلس الأعلى للثقافة المصرية، أضف إلى أن موسوعة الشخصيات العالمية اختارته واحداً من ضمن أشهر (500) شخصية عالمية في مجاله.
ولد في (13أكتوبر1926) بمحافظة أسيوط بصعيد مصر، ونال الكثير من الجوائز، وتم تكريمه من عدّة جهات، وله مؤلفات كثيرة في الفلسفة والنقد وصراع الأصوليات الدينية منها (قصة الفلسفة، الأصولية والعَلمانية، جرثومة التخلف، ومُلاك الحقيقة المُطلقة).
التقته مجلة (المزمار) وأجرت معه الحوار التالي:
*في البداية أين أنت الآن من العالم؟
موجود وفي حالة عُزلة عن العالم، ولكنني مُتابع جيد لما يدور على سطح الكُرة الأرضية من أحداث.
*يمر العالم الآن بمحنتين اقتصادية وفكرية أيهما أشدُّ خطورة؟
الاثنان معاً يُشكلان مُنعطفات خطيرة فهما مُتلازمان ومُرتبطان ببعضهما البعض، فالأزمة الاقتصادية بسبب حالة الركود وقلة الإنتاج والتغلب عليها معروف وسهل .. ولكن المُشكلة في الأزمات الفكرية التي هي سبب مشاكل العالم، وخصوصاً العالم العربي، فمنذ منتصف القرن الماضي رسّخ الفكر الوهّابي الأصولي المُتشدّد بالعالم العربي أعمدة الجهل والتميّز الديني والعُنصري، وتوغل في شتى مناحي حياتنا، ما ترتب عليه تحجّر أزّمة الهوية العربية وانعزالها عن مسار التقدم والحضارة.
مراد وهبة
*إلى أي مدى وصل فكر وفلسفة ابن رُشد بالوطن العربي؟
ما زلت وسأظل أسعى لإعادة نشر فكر وفلسفة ابن رُشد من خلال المؤتمرات والندوات والأبحاث، ومن خلال الجمعية الدولية التي تحمل اسمه، كما أسعى لمحاولة نشر أعماله وتدريسها بالمراحل التعليمية، فابن رُشد صاحب فكر عظيم أحدث ضجة هائلة منذ عدّة قرون، وقد أثرت مدرسته الفلسفية بأوروبا.
(الرُشدية اللاتينية) في العصور الوسطى كان لها تأثيراً قوياً على كثيرين، ولكنه حتى الآن لم يسلم من ألسنة البعض عندنا، فقد ذموه بكُل شفة ولسان.
*ما رأيكم في قضية التحديث والحداثة بالعالم العربي؟
من وجهة نظري قبل أي شيء لا تحديث بدون حداثة، أي لا تحديث بدون تنوير والتنوير يتلخص في لا سُلطان على العقل إلا العقل نفسه، وبالتالي فلا مُحرّمات يمتنع إعمال العقل فيها، والدليل على وجهة نظري هو نشوء الثورة العلمية والتكنولوجية بالغرب مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بفضل عوامل التنوير وإفرازاتها، فأين نحن من تلك الثورة؟
وهبة مكرماً..
*ولكن الحقيقة أن جذور التنوير نبتت في حديقة الفكر العربي؟.
نعم تلك حقيقة، فقد غرس الفيلسوف الإسلامي العظيم ابن رُشد نواة وجذور التنوير بالعالم العربي، والغرب تلقف الثمرة وعوّل عليها، وهذا ما أسميه
(مُفارقة ابن رُشد)، والمُفارقة مردودة إلى مفهوم التأويل الذي أخذه الغرب، واشتغل عليه في تأسيس عصري الإصلاح الديني والتنويري بالقرنين (16 و18)، من خلال ما يُطلق عليه (الرُشدية اللاتينية)، فقد حرر الغرب العقل من السُلطة الدينية فوصل لمُبتغاه، ونحن في الأمة العربية ما زلنا محلك سرّ، ونترك العقل للسُلطة الدينية .. وأذكر أنني قد تحدثت عن ذلك في بحث ألقيته في المؤتمر الفلسفي الإسلامي الدولي الأول بالقاهرة عام (1979)، تحت عنوان (الإسلام والحضارة)، وقد أحدث ضجّة كبيرة آنذاك.
*هل من تعريف أكثر عن العقلانية من منظوركم؟
قلت وطرحت كثيراً بأن العقلانية مذهب فلسفي يدور على أن للعقل كياناً ووجوداً قائماً بذاته، وهو قادر على تعقل ما حوله وتمكين الإنسان للصالح العام .. وهذا المذهب له ثلاثة محاور: المعرفة ـ الميتافيزيقا ـ الأخلاق.
والعقلانية من خلال المعرفة تُفرق بين الحقائق التجريبية المُمكنة والجُزئية والنسبية .. أما الحقائق العقلية فهي ضرورية وكُلية ومُطلقة. وأي نظرية للمعرفة بالتأكيد تُثير مُشكلات ميتافيزيقية، ولكن كُل مُشكلة ميتافيزيقية لها أكثر من حل. والعقلانية من حيث الأخلاق، فهي تتحرك على سُلطان العقل المُطلق، فكُل ما هو ليس عقلانياً هو بالتأكيد غير معقول .. لذلك ينبغي لأي تنظيم عقلاني إنساني أن يكون خاضعاً للعقل.
*إلى أي مدى وصل ركب الثقافة المصرية والعربية في الوقت الحالي؟
الثقافة عامة بمصر والوطن العربي تحتاج لإعادة هيكلة أجهزتها وتجديد خطابها، لكي تلتحم بالشارع بكُل فئاته، حتى تتمكن من أن تغير من مفاهيمه الخاطئة من خلال إقامة بعض الفعاليات (ندوات، ورش عمل، سينما، ومسرح الشارع)، كما لا بد من تطوير التعليم وتنقيح بعض المناهج من بعض الموروثات لكي تنتصر المُجتمعات العربية على الفكر الأصولي الديني الذي دمّر بعضها، وما زال ينتشر!.
*هل هُناك تقصير من بعض المُثقفين المصريين والعرب حيال قضية الثقافة ككُل؟
أغلب المُثقفين المصريين والعربي لم يقوما بدورهما جيداً تجاه أوطانهم، لقد ضلل أغلبهم وعي الجماهير، وذهبوا بعيداً عن المواجهة الحقيقية مع عدو الحياة والتنوير، الإرهاب الفكري الذي ينتهجه الأصوليون داخل أوطاننا العربية من خلال منابرهم الكثيرة، وأدخلونا في نفقً مُظلم من الخراب والدمار، وللخروج من هذا النفق يستلزم تحالف كُل المُثقفين والمعنيين بقضية الثقافة والتنوير.
*هل ثمة مُشكلة في الأديان أم في التدين نفسه بأوطاننا العربية؟
الأديان لا غُبار عليها هي إيمان ورحمة من رب العالمين، الإنسان في أي مكان يؤمن بقلبه أولاً، بعد ذلك يضع الإنسان أركاناً لهذا الإيمان أهمها هي العقيدة … مُشكلتنا في الوطن العربي تكمن في التدين وتحديداً في المُعتقد لدى البعض، خصوصاً عندما يتحول إلى ركيزة أُخرى من وجهة نظرهم وهو أي المُعتقد الذي يحاول ويُطالب صاحبه بضرورة فرضه على المُجتمع بأي شكل، وهُنا تكمن الكارثة، الإنسان حُر في إيمانه، وظاهرة فرض المُعتقدات بالقوة بالوطن العربي، أو في أي مكان هي أم الكوارث في القرن الحادي والعشرين، أو ما أُطلق عليها كارثة تدمير المُجتمعات.
*ما الفرق بين الليبرالية والعَلمانية التي تتحدثون عنها كثيراً؟
أولاً: الرأي عندي أن الديمُقراطية تتكون من أربعة أضلاع هي: العَلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية.
العَلمانية: فصل الدين عن إدارة الدولة، والإبحار في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مُطلق، بمعنى أنَّ الإنسان عقله نسبي فكُل قراراته نسبية، ولو ذهبنا بالنسبي إلى المُطلق سنقع جميعاً في خطأ كبير وهو تجاوز العقل الإنساني، المُطلق يُثبت أركان ما هو نسبي وحين ذلك يتوقف العقل عن التفكير والإبحار.
العقد الاجتماعي: هو اتفاق البشر على تأسيس مُجتمع بلا سُلطة دينية.
أما التنوير: فهو يعني لا سُلطان على العقل إلا العقل نفسه، وينبغي لأي تنظيم عقلاني إنساني أن يكون خاضعاً للعقل.
والليبرالية: تعني أن سُلطة الفرد فوق سُلطة المُجتمع.
*البعض يتهمك بالدفاع عن ابن رُشد في مواجهة أرسطو ما دلالاتك؟
يتهم البعض ابن رُشد بأنه تابع لأرسطو، وتلك اتهامات باطلة، فالمُدقق لأعمال ابن رُشد وبالأخص المنطق، يجده يتناول المنطق على غير تناول أرسطو … كما أن ابن رُشد أدخل مفهوم التأويل في المنطق وهو لم يكن وارداً لدى أرسطو، فالتأويل عند ابن رُشد هو إخراج اللفظ من الدلالة الحقيقية (الحسية) إلى الدلالة (المُجازية)، أي أن هُناك معنيين للنص الديني أحداهما ظاهر والآخر باطن.
*في كتابكم (مُلاك الحقيقة المُطلقة) يتهمك البعض بأنكم تكتبون عن الإسلام بدون دراسة؟
الكتاب يدور أولاً حول مدى معرفة الحقيقة في حد ذاتها من خلال دراستي للأديان، وللبحث عنها أي الحقيقة وهل هي مُطلقة أم لا؟ قد وجدت توتراً بين الفلسفة والعلم من جانب، وبين الأديان من جانب آخر، فعلم العقيدة في الأديان يؤكد أنه يمتلك الحقيقة المُطلقة أو ما يُعرف (بالدوجماطيقية)، وعندما ننتقده نُتهم بالتكفير من قبل البعض!