حكايا من أرض الشوايا

مطر في البئر

محمد الحاج صالح

أخذناها عليه. التصقت به مثلما يلتصق الاسم بالشخص.

قال “كأن الدنيا بدأت تمطر”. كان الجو وقتها صحواً، فمن أين يأتي المطر؟.

مضت السنين وصرنا شباباً ثم كهولاً وما زلنا نعذّبه بضحكاتنا. لم نعدْ نعيد جملته العجائبية “كأن الدنيا بدأت تمطر”، تلك الجملة التي لكْناها بألسنتنا أعواماً قبل أن يبدأ هو بإظهار الضيق من “جفاصتنا” بتكرارها، وإنما صرنا عندما نلتقي وما إنْ تلتمع عينا أحدنا بذاك البريق، الذي نفهمه جيّداً، حتى ننفجر ضحكاً. أو يرفع الواحد منّا رأسه ناظراً إلى السماء بدعوى أنه يتفقد إذا ما بدأت تمطر، فينفجر الضحك. ضحكنا في حياتنا ضحكاً لو وُزِن لزاد عن وزن الأرض والقمر معاً.

أيامها كان آخر عهد قريتنا بالازدهار وآخر عهدها بالازدحام. لا تأخذوا مفردة ازدهار على أنها ازدهار ازدهار؛ خذوها بمعنى وفرة. بعد تلك الأيام بسنوات قليلة شرع الجفاف يأكل القرية ويحوّل أهلها إلى فقراء. غاضت مياه الآبار وتباخلت السماء وقلّ كل شيء. قلّ البشر وقلّت الأغنام وحتى الدجاج مرض ولم تعد أسرابه ترى في أطراف القرية وعلى حدود حقولها. هجر الناس الحقول حيث عزّ الماء وظهرت قيعان الآبار مشققة جافة. انتهت زراعة السقي وعاد الناس إلى البعل وترجّي المطر. تشتت أهل القرية أيدي سبأ كما يقولون. محظوظون قلة وصلوا إلى دول الخليج. أما غير المحظوظين فهاجروا إلى الرّقة والداخل السوري ولبنان أجراء في شبه عبودية.

أقرب مدرسة لقريتنا أيام عزّها كانت تبعد خمسة كيلومترات، لذلك فكّر البعض “لماذا لا تكون لقريتنا مدرستها الخاصة؟”. فعلاً بنوا سلفاً مدرسة من غرفتين قببيّتين. وبقي أن توافق مديرية التعليم وأنْ تخصص معلماً. وقتها كانت المديرية تخصص معلّماً واحداً لكل مدرسة من مدارس منطقتنا. معلمٌ وحيد لكل الصفوف. أخذ وقت التخصيص سنتين. ولكن أخيراً حصل الأمر، وأصبح لدينا معلم ومدرسة.

كنّا حقيقة قطيعاً بكل معنى الكلمة. وقت المدرسة تعلّمٌ وطاعة ورعب من المعلم. أما خارج الدوام فكنّا نتجول بين أطراف القرية وفي حقول القطن والوديان. ربما من تجولنا هذا أطلقوا علينا “جول العجيان”.

أنا الضعيف المريض كنت المنبوذ الوحيد. لا يشاركوني اللعب. يستثنوني من مشاوراتهم أي لعبة يلعبون. متى ما بدأوا اللعب يأمرني أحدهم “دير بالك على ثيابنا”. وإذا ما حاولت أن أندسّ بينهم وهم منهمكين باللعب صرخوا بي “أنت مريض. ما تقدر تلعب. خليك بعيد”. كنت أنقهر وأبكي.

في تلك المرحلة كان بولي يخرج دافقاً مخلوطاً بلون زهري أحياناً، وبدم صريح أحياناً. كنت نحيفاً جداً بعيون غائرة ووجه شاحب، لكنني كنت تلميذاً مجتهداً. كنت الأذكى. وكان المعلم يعيّرهم ويطلب أن يكونوا مثلي في الاجتهاد والذكاء.

مع الزمن سأشفى بعد أن عولجت من المرض الذي عرفنا أن اسمه “البلهارسيا”. ستنمو لي عضلات وسأكمل دراستي وأتخرج من الجامعة بينما لم يُفلح أيّ منهم.

في قمة مرضي حين كانت مثانتي دائمة الإلحاح على التبول. في ذاك اليوم كنت أتبعهم في التجوال اليومي. قرروا أن ينزلوا إلى قعر البئر الأعمى الذي كان أول بئر يجفّ. بئر قريتنا ذاك كان مرصوف الجدران بحجارة كبيرة وعلى بعد أمتار ثلاثة ينفسح قعره على مساطب تنْدخل بعيداً تحت أجواف ضيقة. نزلوا وتركوني في الأعلى أحرس ثيابهم. رأيتهم من فوق، من فوهة البئر، متحلّقين يهذرون ويضحكون. بلغ الحنق مني مبلغاً جعلني بلا أي تفكير مسبق أخرج عضوي المدمّى في ثقبه على الدوام. عصرت بقوة. وارتشق البول على رؤوسهم. رفع هو رأسه وقال “كأن الدنيا بدأت تمطر”. ثوان وأدركوا أنني أبول عليهم.

هربت واختبأت في الوادي ولم أعد إلى البيت إلى أن أظلمت الدنيا. كان أبي يبحث عني وما أنْ رآني حتى حاول أن يكون جديّ التعابير، لكنه ما استطاع إذْ انفجر بالضحك.

علمت أنهم جميعاً عوقبوا لنزولهم البئر. وأدركت شيئاً فشيئاً أنَّ ما قمت به صار طرفة يتناقلها أهل القرية. والأهم أنّني لم أُعاقب من قبل معلّمنا بل رأيت ظلاً من ابتسامة خفيّة كلما رآني.

بقيت تلك الجملة خالدة “كأنَّ الدنيا بدأت تمطر”. بقيتْ مادّة للشروع بالضحك كلّما التقينا.

طبيب سوري مقيم في النرويج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى