مساءً.. في الكامب

عيسى الشيخ حسن
…
ـ گلبي زغيّر مثل حبّة دروبس.
– حين قالها سعيد الجاسم، فإنّه كان “يتمسكن” بتمثيل واضح، وجارَتْه جازية ضاحكةً:
– گلبك “قبطة دروبس”.. وضحكا معاً، أمام “شدّة العمال”. كان سعيد “يدحي” الشلّ الثامن في اليوم الثالث من قطاف حقل الحمّود، وبدا القطاف في ذلك الأصيل من تشرين الأوّل أشبه بنزهة سعيدة، وقد انكسر ظهر النهار، وعادت المراضيع إلى البيوت، مكتفياتٍ بقطاف ست ساعات من “شگوگ الضوّ” حتّى قبيل الظهر. وفي الساعات الأخيرة تفكّر البنات كيف يغلبن “شاهة” ملكة القطاف التي تتجاوز الـ مائة كيلو كلّ يوم، ولكن هيهات.
.
ترك سعيد المدرسة في الصف التاسع، سعيد الذكي الذي لم يطق صبراً في الجلوس على مقاعد الدرس، واحتمال تقريع المدرّسين، تاركاً لزملائه المساكين قطع الشوط الطويل نحو الدراسة. ولم يكن أهله يدركون فائدة العلم يومذاك، فتركوه “يبطّل” و”ينحر” بيروت. سنة، سنتين، ثلاثاً، راح سعيد، وجا سعيد، يفتح حقيبته المليئة بالهدايا، وجيبه المليء “بخرجيّة العائلة” وما زال أترابه المساكين على مقاعد الدرس، فيتلمّس قبضة الدروبس منتشياً، وقد فاقهم خبرةً ومالاً. حين أراد أهله تزويجه لم يجدوا المهر الكافي لخطبة الفتيات اللاتي تولّعن بصاحب القلب الذي كـ قبضة الدروبس، الطويل، الوسيم، ذي الشعر الأشقر المسبّل، لم يجدوا غير “جيزة بدايل” تختصر المسألة بجهاز بسيط، وحفلة عرس يتحمّل وليمتها الأقارب الذين أقرضهم سابقاً في زيجات أبنائهم أكياس السكّر والذبائح.
.
ولكنّ “قبطة الدروبس” ظلّ مثار الحكايات، في جلسات الأصدقاء، وأحاديث البنات، برغم هزيمته النكراء حين تزوّج فتاةً عاديّة، لم يبذل لها “مكتوباً”، ولم يرسل إليها من تزيّن لها رجاحة عقله، ووسامة شكله. كانت هاجر فتاة عادية لم تتمّ السادسة عشرة، حين وجدت نفسها جزءاً من صفقة سريعة، ولم تجد من الرفض فائدة:
– إذا عندچ خطيب طالعيه.
– يا مهبولة.. وحده يصير لها سعيد، وما تريدو؟
كانت هاجر مربوعة، فسمّتها عمّتها “شْجرْة العْنَبّ” وكان ذاك اسماً على مسمّى، حين قطفت العائلة سريعاً عناقيد الزيجة الجديدة المباركة، أولاداً ذكوراً وإناثاً، ثمّ إنّه توظّف سائق شاحنة في الإسكان العسكري فرأتها العائلة وجه خير عليهم. ورغم ذلك كانت “قبضة الدروبس” تشاغب أعلى الصدر، كلّما رأى فتاة جميلة، أو حضر عرساً، مستمعاً إلى من تعرّض به:
– يا بااا شـ عليه زين!!
– دح دح .. تگول خوالو كراد!!
فيبتسم سعيد ابتسامة مقتضبة.
حين بلغ ابنه البكر “إسماعيل” السادسة، أخذه إلى البلد، صوّره، ومرّا جانب بائع البسطة عند الكراجات، كان الدروبس في أكياس نايلون صغيرة، فتذكّر أيّاماً بعيدة، وتهيّج الكيس الذي في صدره:
– شـگدّ الدروبس.
– الكيس بخمسة.
أخرج سعيد ورقة خضراء، ودفعها إلى البائع، وتلمّس الكيس جيداً، وهو يرى أمامه جازية تبتسم دون أن تهدأ يداها في ملاحقة أجراس القطن المتفتّحة، يومها قطفت 112 كيلو، ولم يبق بينها وبين شاهة سوى بضع كيلوات. رحل أهل جازية آخر تشرين الثاني، نحو ريف حلب، وظلّت “قبطة الدروبس” مكانها. في العام التالي لم يأتوا، قالوا إنّ قناة الريّ وصلت قريتهم، وأغنتهم عن قطاف المواسم.
.
أنجبت شجرة العنب سبعة أولاد، وبنتين. مرضوا، وتعافوا، وتجاوزوا الحصبة والنكاف، و”العوّاية”، وهدأت صبابات سعيد، ولم يعد يفكّر بالزواج على هاجر، منذ عزم على ذلك عام الخَصاب.
كبرت العناقيد، وعرف الأولاد طريقهم إلى المدارس، وإلى بيروت وعمّان. يأتون في إجازات متعاقبة فيشترون لأبيهم الدوابّ، ولكنهم سرعان ما يبعونها ليسدّوا مصاريف المتعلّمين.
عام 2013، جاءه الخبر أنّ أحد أولاده استشهد، فاهتزّت قبضة الدروبس بعنف:
– أحمد ألّا اسماعين؟
كان أحمد طالباً في جامعة حلب، سنة ثانية اقتصاد، وكان إسماعيل يقضي الشهور الأخيرة من “عسكريّته” في حمص.
.
مساءً … في “الكامب” الصغير هناك، كان “قبضة الدروبس” يتمشّى تاركاً لـ”ـشعفته الحمراء” أن تتذوق نسيمات عليلات بعدما أعفاها من لفّة الجمدانة منذ أن ترك البلاد.. يتمشّى وينسى في المساء الرائع أنّه لاجئ، يرى من حوله بشراً مختلفين، ويتذكّر أغنيةً .. غنّتها له أخته في زفافه:
راحم من هينة بعثة* على فرنسا دراسة
سعيد نايف عليهم* بالفهم والسياسة
فيسخر ضاحكاً ضارباً كفّاً بكفّ، كيف وصل بلاد الغرب، قبل زملائه الذين تركهم على مقاعد الدراسة، وظلّوا هناك. باع سعيد البيت، وباقي القطيع الذي اشتراه له أولاده، بعدما فقد عنقودين وهما “حصرم” في ذلك العام. دفع “المصاري” كلّها لقاء هجرة مريحة إلى أوربا.. عند الوداع قال لأصدقائه ساخراً: “بدي أسرح بدويبّات ميركل”… ولكنّ ما أسعده ذلك اليوم، حين اتّصل بهم اليوم وسأله عبدالله المحمد:
– شـ معنى “قبطة الدروبس” بالألماني؟
10/4/2025