عبد العظيم إسماعيل
انفجارات هائلة هزت المنطقة التي نحن فيها في أقصى جنوب غزة كأننا فوق سطح بركان مدمّر لا يهدأ، تموج الأرض تحت أقدامنا بزلزلة لا أستطيع وصفها من هولها وشدّتها، يترنّح الجميع كالسكارى، لكنهم ليسوا بسكارى، وإنما من أثر القصف الجوي والأرضي غير المسبوق، كأن أبواب الجحيم فُتِحت على مصراعيها بلا هوادة أو رحمة، رعب.. صراخ أطفال.. الكل أعينهم زائغة يبحثون عن طريق للخروج والنجاة من المنطقة المنكوبة التي تدمّر بشكل مقصود وعلى مرأى من العالم المنافق من حسن حظنا ووسط هذه الفوضى المدمِّرة تبرز عربة جارنا حسن كأنها خلاصنا، يحمل من تبقى من أفراد أسرته متكوّمين مع ما استطاعوا أن يحملوه من أمتعة، تَعربشتُ العربة وهي تمشي أنا وأمي وأخي الصغير بمساعدة الأيادي التي امتدّت إلينا من فوق العربة لتسحبنا، تسير العربة بشكل عشوائي مُتخبّطة على غير هدى فوق طريق خرّبته جرافات العدو الصهيوني. يضرب حسن الحصان الهزيل على جانبيه بعصى يحملها يستحثّه الإسراع، والحصان ليس بأفضل حال من البشر من الوضع المهول الذي انغمس فيه مُرغمًا، ذكّرني وأنا بهذه الحالة التي لا يُحسد عليها بشر بحصان عنترة في حومة الوغى وهو يشكو صاحبه بعَبرة، وتتَحَمْحُمِ من وقْع المعركة، وقسوتها، وأثر الرماح الدامي في صدره:
لوكان يدري ما المحاورة اشتكى.. ولَكان لو علِمَ الكلام مُكلّمِ
صاحت أمي عليّ بفزع: اسلام، امسكي حمودة حتى لا يسقط من العربة.
أجبتها وأنا أحتضن حمودة: لا تخافي، لن يسقط إلّا إذا سقطت.
تمضي الدقائق ببطء شديد قاتل، كأنّ الزمن قد توقّف، الأوضاع تزداد سوءاً وخطراً، الدمار يحيط بنا من كل مكان، بات تحرك العربة البدائية صعباً بسبب التجريف المتعمّد، والأبنية المنهارة على جانبي الطريق حتى توقّفت العربة تماماً ممّا جعلنا نترجّل منها، ونمضي مشياً متعثّرين بين الركام يلازمنا الخوف والقلق من مصير مجهول حتى وصلنا إلى منطقة ليست مدمّرة بالكامل وجنود العدو الصهيوني على جانبي الطريق أمرونا أن نمشي بصفّ واحد وراء بعضنا البعض، وقناصته يتمركزون فوق أسطح البنايات يراقبون كل حركة، أي حركة أو التفاتة يشكّ فيها الجنود الصهاينة تعرّض صاحبها للموت المجاني العبثي على حين غصّت الساحات بالدبابات والجرّافات. جعلنا حمودة بيني وبين أمي نحثّ الخُطا على أمل تجاوز هذه المنطقة التي يعتبرها العدو منطقة عمليات عسكرية.
مشاهد مؤلمة رأيناها على جانبي الطريق تُفتّت القلب، تُمزّق الروح،
سيارات محترقة تفحّم راكبوها، أو قتلى بأجساد متحلّلة، جثث شهداء، وبقايا بشرية متناثرة لا يستطيع أحد أن يقترب منها متروكة بالعراء يغطيها الذباب تنبعث منها روائح كريهة تحوم حولها بعض الكلاب تنتظر الفرصة لنهش ما تستطيع من تلك الأجساد البريئة، على حين ينظر جنود الاحتلال الصهيوني إلينا نظرات الحقد المليئة بلؤم دفين ينتظرون منا أي حجّة لينطلق رصاصهم الغادر تجاهنا رغم أن البعض يرفع رايات بيضاء، ومع ذلك لم تشفع لهم راياتهم إذ تعرّض البعض منهم للقتل بدم بارد، وتُركوا ينزفون حتى الموت بدون أن يستطيع أحد إنقاذهم أو مد يد المساعدة. لا فرق عندهم في القتل، سواء كانت امرأة، طفل، عجوز، حتى الحيوانات لم تسلم من رصاص حقدهم، المهم المزيد من الضحايا بقصد الترويع، والتهجير، وهذا ليس بجديد عندهم، تاريخهم الدموي الإرهابي الإجرامي لا يُخفى، بل يفتخرون فيه، من مجزرة دير ياسين، حدّث ولا حرج أكثر من أن تُحصى مجازرهم. يا إلهي، نعاني من إبادة جماعية قلّ نظيرها منذ عشرات السنين على مستوى العالم تحت سمع وأنظار العالم المتفرج الذي قد يكتفي بالتنديد كما يقولون بأشد العبارات. صوت أمي المرتجف لم ينقطع طوال الطريق توصيني بالانتباه لأخي ناسية نفسها. الطريق الذي سلكناه لم يتجاوز مئات الأمتار، لكنه دهر في قياس الزمان. تجاوزنا منطقة تواجد جنود العدو الصهاينة إلى منطقة امتلأت بطوابير من النازحين من بيوتهم تجاه الجنوب من غزة إلى دير البلح وخانيونس. تنفّسنا الصعداء مؤقّتًا، جلسنا على حافة الطريق نلتقط أنفاسنا نبلّ ريقنا من قارورة ماء بلاستيكية حملتها أمي بحقيبة صغيرة بها بعض المتاع، والطعام ريثما نصل إلى أقارب لنا في دير البلح.
تابعنا طريقنا ونحن ننظر إلى الخلف، تكشّفت لدينا الرؤية أكثر دمار لا مثيل له، لا تزال بعض أعمدة الدخان تنبعث من مختلف الأماكن لا فرق في الدمار بين البيوت والمستشفيات، دمار كامل للبنية التحتية!
أنظر إلى عيون أمي المليئة بحزن لا أستطيع تفسيره، وهي تقول:
هل كُتب علينا القتل والتهجير دائماً، أليس لنا حق الحياة في وطننا كغيرنا من البشر؟ غصّت بمفردات لا تزال في حلقها على حين خرجت كلمات من أخي الصغير حمودة وهو يشدّ على يد أمي:
يا أمي، سنعود إلى بيتنا، حتى لو كان مدمّراً، ونعمّره من جديد، لن تستطيع قوة في الأرض أن تحرمنا من أرضنا.