عبد الكر يم البليخ
من نافذة صغيرة في الطائرة، ومع اقترابها من أرض المطار، امتدت نظراتي عبر السماء لتلتقط مشهدًا مألوفاً لكنه مشوّه. قوس قزح ليس من صنع الطبيعة، بل ألوان مصطنعة تمتد على هياكل السيارات التي تغمر الشوارع، والميادين، والمستديرات. مشهد يعكس حضارة حديثة، ولكنها تخنق جمالها بالحديد والإسمنت.
منذ خمسة وعشرين عاماً، في أول رحلة لي بالطائرة إلى الولايات المتحدة الأميركية في يوليو/تموز 1999، كان المشهد مختلفاً تماماً. كانت عينيّ تتأملان حقولاً خضراء، رمزاً للحياة والخصوبة، وأشجاراً متشبثة بربيعها في مواجهة حرارة الصيف.
أما الآن، فقد استُبدلت تلك الألوان الحية بأخرى صناعية. الحُمر، والصُفر، والزُرق، والخُضر لم تعد زهوراً في حدائق الطبيعة، بل ألوان سيارات حديثة، تعبّر عن حضارة حولت المساحات الخضراء إلى طرق مزدحمة وأبراج شاهقة.
الهواء النقي الذي اعتدناه في الماضي، حيث كانت السماء صافية تعكس روح الحياة، تلاشى تحت غطاء سميك من السموم. غازات قاتلة كالأزوت والمازوت وثاني أكسيد الكربون أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية. تشكل هذه السموم طبقة غبارية خانقة، تلوث رئاتنا وتُقدم الموت إلينا بالتقسيط.
ما كنا نعتبره إنجازاً حضارياً، أصبح معولاً يهدم طبيعتنا وصحتنا. مدننا الحديثة استبدلت الصفاء بالنفثات السامة، والبهجة بالخوف من المستقبل.
تغير البشر كما تغيرت المدن. الوجوه النضرة التي كنا نراها في الصبا، تحولت إلى وجوه متعبة مصفرة كأنها فقدت الأكسجين النقي الذي كان يغذي الأرواح. أصبحت القرى الصغيرة، التي كانت رمزاً للهدوء، مدناً تعج بالضجيج والحديد.
كل أسرة تقتني سيارات تعادل نصف أفرادها على الأقل، مما يضيف إلى زحام الطرقات وحوادث المرور التي باتت مشهداً يومياً مألوفاً. دوائر المرور تغص بالمراجعين: تسجيل السيارات، نقل ملكياتها، أو التحقيق في حوادث مرور مأساوية.
في المستشفيات، تعلو أصوات الثكالى على فقدان أحبائهم بسبب حوادث مميتة. الكراجات تملأها السيارات التالفة، تحوّلت إلى حطام يكلف الملايين التي تذهب سدى. شركات التأمين مشغولة بمتضررين يسعون لتعويض خسائر لا تعوضها الأموال.
إعلانات النعي في الصحف السوداء باتت مشهداً يومياً. شباب في عمر الزهور تُنعيهم كلمات الأسى والمواساة، ولكن لا تعيدهم الحياة. وكالات استيراد السيارات، التي كانت رمزاً للتقدم، أصبحت أشبه بمحلات “الحانوتي”، تبيع نعوشاً معدنية تسير بالبشر نحو نهاياتهم.
لم تعد أسواقنا كما كانت. اختفت الخيول، والإبل، والشعراء، لتحل مكانها أساطيل السيارات الحديثة. معاطن الإبل، التي تغنى بها شعراؤنا القدماء، أصبحت مواقف ضخمة تكتظ بسيارات تحمل أختام مصانع اليابان وألمانيا وأميركا.
ما كنا نراه في الماضي من بساطة وجمال أصبح ذكريات، حلت محلها مظاهر حديثة فقدت روح الأصالة والهدوء.
عندما حطت الطائرة أخيراً، استيقظت على صوت المضيفة. قررت السير إلى المنزل بدلاً من ركوب السيارة، أبحث عن هدوء الماضي على قدميّ. لكن الطريق لم يكن أرحم. السيارات بالمئات تطاردني بدخانها السام وضجيج عجلاتها.
لم أجد خياراً في النهاية إلا ركوب سيارة، أشعر داخلها بأمان نسبي، رغم أنها جزء من هذه الحضارة التي تقتلنا بهدوء.
ما نعيشه اليوم ليس حضارة حقيقية. إنها نسخة مشوهة، اغتالت الإنسان والطبيعة معاً. الهواء النقي أصبح دخاناً ساماً، والأشجار التي كانت تمنحنا الأمل حلت محلها أبراج خرسانية خالية من الروح.
الموت الذي كان يأتي مرة واحدة أصبح يُجزأ. مع كل نفس نتنفسه، ومع كل خطوة نخطوها في هذا العالم “الحديث”، نفقد جزءاً من حياتنا.
السؤال الأهم: هل نستطيع أن نستعيد ما فقدناه من نقاء الطبيعة وروح الإنسان؟ أم أن هذه الحضارة ستستمر في اغتيالنا حتى آخر رمق؟
التقدم الذي نعيشه يجب أن يكون وسيلة لتحسين حياتنا، لا وسيلة لتدميرها. ربما يكون الوقت قد حان لإعادة التفكير في مفهوم الحضارة، واستبدال الدخان بالهواء النقي، والضجيج بالهدوء، والحديد بالبساطة التي كانت تمنحنا الحياة.
1/1/2025