Site icon المزمار الجديد

وجوه الراحلين

بدءاً من اليوم، نستعرض ما سبق أن دونه الأديب الراحل عبد السلام العجيلي من مقالات في كتابه “وجوه الراحلين”، حيث توقف عند عدد من الرجال الذين ربطته بهم علاقات صداقة وصحبة، وانضموا إلى قوافل الراحلين. كما تناول بالحديث البعض الآخر ممن كانوا، حينها، لا يزالون على قيد الحياة.

المزمار

كتاب وجوه الراحلين

مقدمة

هذه كلمات كنتُ كتبتها في الصحف أو ألقيتها على المنابر في مناسبات مختلفة من تكريم أو تذكّر أو رثاء، تحدثت فيها عن عدد من الرجال ربطتني بهم علاقات تتراوح بين المُخالطة البسيطة والصداقة الحميمة، مروراً بالصحبة والتتلمذ. لقد انضم هؤلاء النفر من المعارف والأصدقاء إلى قافلة الراحلين من الدنيا ولقوا وجه بارئهم، بعضهم بعد أن تحدثت عنه، وأكثرهم قبل أن أتحدث. وكنت كلما رجعت إلى أقوالي فيهم فكرت بأن جمع تلك الأقوال في كتاب لن يكون أمراً عديم الجدوى. فعدا عن تسجيل ذلك الكتاب لبعض إنتاجي الفكري، فإنه جدير بأن يزود قارئه بمعرفة من لم تتح له معرفته من هؤلاء الذين تحدثت عنهم، أو يذكّره بمن عَرف أو سمع به منهم وأبعدته عن ذكراهم الأيام والأحداث.

وأذكر أني طرحت عزمي على إخراج هذا الكتاب مرة في حلقة من المعارف، فقال لي أحدهم: بلا شك سيكون كل ما يرد فيه ثناءً ومدحاً لأولئك الرجال! قلت: هذا صحيح… إلا أن معناه غير ما تظن، من أني ألقي الكلام على عواهنه وأنني أثني على من يستحق ومن لا يستحق. فأنا في طبعي بعيد عن أن أضع كلمة في غير موضعها الحقيقي. ولكن أمرين يكمنان وراء العبارة الطيبة التي سيجد قارئ الكتاب أني قلتها فيمن تحدثت عنهم. أول هذين الأمرين أني لا أتصدى بالكلام إلّا عمن يرضيني الحديث عنه. وثانيهما أني مطبوع على تغليب جانب الطيبة في من أعرفه على جانب السوء، وعلى اصطفائي خلال الخير فيمن أخالطه، وضربي الصفح عمّا كان فيه من شر.

والواقع أني طالما امتنعت عن إجابة دعوات توجه إليّ كي أتحدث في تكريم رجال مبرّزين أو في ذكرى رجال مبرّزين، واعتذرت لذلك بأعذار مختلفة، أحياناً لقلة اتصالي بأولئك المبرّزين وضعف معرفتي بمناقبهم، وأحياناً لقناعتي بأن المجالات التي برزوا فيها لا تستحق أن أهدر فيها كلماتي. ولهذا قلت إنني لا أتحدث إلا عمن أجد الحديث عنه يرضيني. ومن ناحية أخرى، أجدني كثيراً ما أثير عجب أصحابي لاستخفافي ظلّ بعض الناس وقبولي معاشرتهم على ما فيهم من مآخذ معروفة. وأنا أرد على ذلك العجب بقولي إنني قلّ أن أجد إنساناً خالياً مما يثير اهتمام من هو مثلي. فإذا كان لهذا الإنسان خلاله المنتقدة، فإني لا أقاربه من ناحيتها، وإنما أقتصر في مخالطته على ما هو صالح فيه ومهم. هذا وذاك يفسران كون ما يجده القارئ في كتابي هذا كلاماً خيراً وطيباً. لولا ذلك ما كنت قلت هذا الكلام. فإني من متبعي الحكمة المأثورة: قل الخير وإلا فاصمت.

على أن القارئ الفطن سيدرك دون كبير عناء أن فصول هذا الكتاب ليست مجرد إطراء ومديح لمن عقدت عليهم. إنها في الواقع صفحات أدبية يتجاور فيها تاريخ الأحداث وتصوير النفسيات، وتتضمن آراء شخصية لي في السياسة والعلم والاجتماع في ثنايا كلامي على من تحدثت عنهم. وهذا دأبي في كل ما أكتبه أو ألقيه، أن أجعل من أي مناسبة تعرض لي أو ملتقى أشارك فيه مجالاً للتعبير عن أفكاري وأحاسيسي ووسيلة لنقلها إلى من يقرأني أو يستمع إلي.

بقي أن أقول إن كتبي الأخرى، وصفحات كثيرة من دوريات متعددة، قد احتوت فصولاً غير هذه عقدتها على راحلين آخرين ممن كان لي بهم صلة ومعرفة. فإذا كنت قد اقتصرت على من أوردت ذكرهم في هذا الكتاب، فقد فعلت ذلك تجنباً للتكرار من ناحية، وتداركاً لما فات علي تسجيله من ناحية أخرى. وسواء أكان أنانية إقدامي على تسجيل ما قلته في هؤلاء الراحلين، أو كان غيرية ووفاءً وحرصاً على تثبيت الإشادة بهم في هذه الصفحات، فإني أرجو أن يحمل كتابي إلى القارئ العادي وإلى الباحث الدارس شيئاً من متعة وبعضاً من فائدة، باطلاعه هذا وذاك على جوانب خفية أو تفصيلات مهملة من سير رجال رحلوا عنا، وكان لهم، قبل رحيلهم، في جوانب متباينة من حياتنا أثر وجهد ومآثر.

الرقة – سورية

تموز – يوليو ۱۹۸۲

عبد السلام العجيلي

…..

نجيب الريس

جهاد في ميدان الأخلاق

(1)

بقلم : عبد السلام العجيلي

كيف كانت الحال في سورية في الأعوام الثلاثة 1926، 1927، 1928؟ … كان المحتل ينفض عطفيه خيلاءً بعد خمود ثورتنا الكبرى ويدير بينه وبين نفسه صور الانتقام لتلك الضربات القاسية التي كالها له هذا الشعب الصغير الباسل. أما البلاد فقد كانت تداوي جراحاتها العميقة وتتهيأ للجولات القادمة. وكان الناس يرون، والحق معهم فيما كانوا يرون، أن الحرية أم الفضائل. ولذلك كانوا يرون، وما كان كل الحق معهم في هذا، أنه لا جهاد إلّا في ميدان الحرية وفي سبيلها. لذلك كانوا يتهاونون فيما دون الحرية من الفضائل ويعتقدون أننا يوم نصبح مستقلين سيأتينا في ركاب الحرية كل الفضائل من نزاهة وعدل وإيثار وإعطاء كل مواطن حقه. إلا أن واحداً من الناس، ولعله ما كان وحده في ذلك، واحداً من الناس من المكافحين في سبيل الحرية المجاهدين في ميدانها، كان يرى أنّ الأخلاق الفاضلة دعامة الحرية، وأن الجهاد في ميدان الأخلاق هو بعض الجهاد في سبيل الاستقلال، فصاول في هذا الميدان وناضل مثل صِياله ونضاله في ذاك غير مقصِّر ولا متخاذل. ذلك الواحد هو نجيب الريس.

وماذا كانت الرَّقة، بلدي، في الأعوام الثلاثة 1926 / 1927 / 1928؟… كانت سورية، في عُرف غالبية المعنيين بالأمور الوطنية، هي المدن الأربع: دمشق وحلب وحمص وحماة. أما الساحل والجبل فكانا تحت حكم شبه مباشر، وأما ما وراء حلب من بادية وجزيرة فكان متروكاً، من ناحية التنظيم الوطني، إقطاعاً لضباط الاستخبارات يحكمون فيه هم وتراجمتهم وأعوانهم دون رقابة أو معارضة. وكانت كل حركة وطنية وكل مقاومة للأجنبي وكل معارضة لحكمه تلد وتموت في هذه المنطقة الضائعة دون رعاية أو معاضدة أو التفات من مراكز النضال في الداخل.

وكانت الرّقة قرية صغيرة، ولعلها لا تزال قرية وإن كبرت، في هذا المحيط المجهول. فلا عجب إذا طغى في الرّقة ضباط الاستخبارات وأفسد في الحكم أعوانهم، وتعرّض المواطنون للجور والضغط واضطُهِد ذوو الفكرة القومية دون أن يدري بهم أحد أو يأخذ بناصرهم أحد.

ولكن رجلاً واحداً كان يرى إلى أبعد مما كان يرى كثيرون غيره، ويدرك أن الوطن واحد مهما تباعدت رقاعه، فجاء إلى الرّقة في تلك الأيام ليحمل مع أهلها قسطاً من عبئهم، وليكون لسانهم الناطق أمام المحتل الغاشم وفي ميادين الحق، وليتعرّض مثلهم لجور ذلك المحتل وطغيانه. ذلك الرجل هو نجيب الريس.

إني لا أزال أرى بعيني الصبي الصغير الذي كنته في تلك الأيام المجلس الذي عقده شيوخ أهلي ليجتمعوا فيه بهذا الشاب الذي جاء إليهم من دمشق، وما كان أبعد دمشق في تلك الأيام، ليتدبّر معهم خطة المعركة المشتركة. لقد شُنت هذه المعركة على صفحات القبس، ثم أصبح ميدانها ساحات القضاء وأروقة الوزارات، وتناولت نارها ضباط الاستخبارات والمندوبين فوقهم، والقائمقامين والمتصرفين ومن فوقهم الوزراء، ودامت أربع سنين بل امتدت ذيولها إلى أكثر من ذلك.

الراحل نجيب الريس

كان يحكم الرّقة حينذاك قائمقام بارز الشخصية، قوي الشكيمة، شديد الذكاء. سخّر كل عناصر قوته ليوطّد حكم السلطة المنتدبة، وليجرّ المغانم المادية لنفسه ولحُماته: ضباط الاستخبارات وأعوانهم. الخيانة هي البضاعة الرائجة، والرشوة هي الوسيلة الفعّالة. وأصبح لكل مختارية ثمن، بل مزايدة على الثمن، ولكل التزام حكاية وقصة. أما غرامات البنادق فكان المستشارون يبادرون إلى فرضها كلما آنسوا تذمّراً أو أحسّوا ببادرة احتجاج على هذا الأسلوب البديع الذي تجري عليه أمور الناس.

وظل كل شيء سائراً على ما كان يرومه القائمقام وحلفاؤه، أو سادته، ضباط الاستخبارات، حتى بلغت بهم الاستهانة كل مبلغ، فلم يحذروا في ابتزازهم المال الحرام عدواً ولا صديقاً. وهكذا أقدم القائمقام في ذات يوم على أن يساوم الملتزم لسفن العبور فلا يسمح للبدو بعبور الفرات على سفن هذا الملتزم إلا إذا دفع للقائمقام وشريكه المستشار مبلغاً مقطوعاً قدره خمسون ليرة عثمانية ذهباً. وكانت الاستهانة أن الملتزم كان واحداً منا، من الذين يؤمنون بأن المستشار وأعوانه هم أعداء الدين والوطن والحرية. فكانت تلك نقطة الضعف والفرصة المتحيّنة لبدء المعركة.

لن أسمّي أسماء، ولن أذكر أشخاصاً بعينهم في هذه الكلمة، فقد ذهب الانتداب وسلطانه وانتقل كثير ممن اشتركوا في هذه المعركة إلى رحمة الله، وتبدلت المقاييس، بل انعكست في بعض الأحيان، فتصدّر خونة وخُوِّنَ مُجاهدون، وأصبح ذكر الماضي كلاماً معاداً تضيق به الأسماع حيناً أو يُتاجر به العاجزون أحياناً.

ولكني حين أذكر تلك الحملة التي شنها نجيب الريس على فساد الحكم، وحين أذكر تلك الضجّة وذلك الاضطراب اللذين شاعا في قضاء الرّقة كذيول لتلك الحملة، وحين أذكر تلك اللجان التي كانت تروح وتجيء والتهديد والوعيد اللذين انصبّا على أهلي الذين أثاروا تلك الحملة، ثم أذكر موقف نجيب الريس الذي لا يتزحزح عما نادى به أنه حق، حين أذكر كل ذلك تتبادر إلى ذهني صور الأفذاذ من الرجال الذين قرأنا سيرهم والذين يواجهون الدنيا جميعها انتصاراً لحق ضعيف استحله قوي.

جرّد نجيب الريس قلمه في تلك الافتتاحيات الرائعة التي تكون بمجموعها جزءاً مهماً من سجل الجهاد في سبيل الاستقلال، فمرّغ في التراب حكم المنتدب الفرنسي حين حمل على الطريقة التي يُحكم بها جزء من الوطن السوري وجزء من الشعب السوري في قضاء الرّقة وباديته. وكان سلاح السلطة المنتدبة التعطيل لـ القبس وإحالة صاحبها إلى المحاكم بتهم التحقير والافتراء، ووراء كل ذلك سلطة ضباط الاستخبارات العسكرية وسلطة المفوضية العليا المهددة بما يشين كرامة قدس أقداسها.

وكانت مهزلة رائعة حين أدان القضاء ذلك القائمقام بالرشوة ولكنه لم يعتزل منصبه، لأن أسياده ما كانوا يريدون أن يشهد الملأ انتصار نجيب الريس على الحكم الفاسد في تلك المعركة التي دارت رحاها في ميدان الأخلاق. إلا أن الحق الذي يُنافح عنه نجيب الريس لقمة شائكة لا تستطيع، وإن لاكتها طويلاً، أن تستسيغها أفواه أهل الباطل. ففي خلال أعوام أربعة ملأتها هذه القضية لم تقوَ لجنة إدارية، أو هيئة تفتيش، أو محكمة من المحاكم، أن تنصر باطل السلطة على حق المواطنين، حتى اضطرت تلك السلطة، سلطة الانتداب، أن تطامن من كبريائها وتنزل صاغرة عن مركب الظلم الذي ركبته.

وكان ذلك انتصاراً لنجيب الريس، انتصاراً رائعاً لم يقف نجيب عنده لأن معارك أخرى في ميادين أخرى كانت في انتظاره. ولكن الذين دارت بين ظهرانيهم المعركة التي انتهت بهذا الانتصار ما برحوا يذكرون ذاك الذي شاركهم محنتهم في أكثر الأيام سواداً وقاوم معهم، متجرداً من كل رغبة أو مطمع، قاوم معهم طغاة ما كانوا يظنون أنهم يقاومون. إنهم يذكرونه ويتأسّون بذكراه كلما استفحل ظلم حتى قيل إنه لن يُرفع، وكلما أعوزتهم في الجهاد المجرّد في ميدان الأخلاق أسوة حيّة حسنة.

١٣ شباط

١٩٥٥

…..

نجيب الريس.. مسيرة صحفي

نجيب الريس صحفي سوري للامع، والوطني النبيل، والأديب الثائر، والخطيب المفوّه نجيب محمود الريس، فهو سيرة الكفاح الوطني السوري من أجل الحرية والاستقلال، فسيرة هذا الرجل الوطني الوفي لا تنفصل عن حكاية الوطن السوري.

وُلد نجيب الريس في مدينة حماة السورية عام 1898، وكان صحفياً مناضلاً شكلت مقالاته وثيقة سياسية لما يمكن أن تحلم به الأجيال في سوريا، لكن تلك الأفكار لم تترجم لفعل سياسي لأن الفاعلين كانوا من العسكر، وجاءوا ليسكتوا الجميع.

أصدر الريس عام 1928 جريدة القبس التي كانت ديواناً للحركة القومية وسجلات للنهضة الوطنية في سوريا، بل وأصبحت من أشهر الصحف السورية وأكثرها تمتعاً بثقة أبناء الشعب، إلى أن دخل الحياة الحزبية وانتسب للكتلة الوطنية وأصبح أحد أعمدتها.

نجيب الريس

دخل الريس السجن، وقضى فيه نحو ثماني سنوات، ونظم حينها نشيده الشهير “يا ظلام السجن خيّم”، وقد نفاه الانتداب الفرنسي على إثرها إلى جزيرة أرواد. وبعد نهاية ثورة عام 1925 صار الريس نائباً في البرلمان السوري عن قائمة الرئيس شكري القوتلي لمدة أربع سنوات، واشتهر في البرلمان خطيباً جريئاً في الدفاع عن قضايا البلاد ومصالح الشعب.

نشر الريس عدة كتب، أولها كتابه “نضال” (366 صفحة متوسطة) الذي صدر عام 1934 في مطبعة القبس بدمشق، وقد وُصف هذا الكتاب بأنه دليل على مواقف الريس السياسية والوطنية في الدفاع عن استقلال سوريا ووحدتها، كما نشر كتابه “جراح” الذي صدر بعد وفاته بأشهر قليلة.

توفي نجيب الريس في العاصمة السورية دمشق عام 1952 ودُفن فيها، وقد استقبل الناس خبر وفاته بالدهشة والحزن، ولم تمض ساعات قليلة على رحيله حتى بدأت الوفود تصل إلى دمشق من حمص وحماة وحلب، وشيع في موكب مهيب وصفته الصحافة حينها بأن دمشق لم تشهد موكباً كموكب نجيب الريس.

Exit mobile version