الطريق إلى المقبرة (3)

نص بصري
تصدير وتذكير:
/كرٓاس من الاخبار والاشاعات بخصوص المرحوم وعائلتة .. ألٓفه وتناقله ورواه ..الأنذال، والحمقى، وبعض الأصدقاء/.
خبر عاجل
الآن ..حدث في المقبرة
د. حمدي موصللي

ـ قلت في نفسي لم لا أصيغ السمع، وأنظر بحدود المساحة المتاحة للرؤية من داخل التابوت، وأعرف ما هو تأثير صدى موتي على أغلب الذين تعاملوا معي، وتعاملت معهم في حياتي المديدة، وخاصة في السنوات الثلاثين الأخيرة من حياتي. وبالفعل سرٓحت نظري بين المشيّعين، فوقع على أبي عبدو الفوسفوري ..
– أبو عبدو الفوسفوري رجل عملاق، قوي البنية مضغوط الجسد بالرقبة، وهو برتبة مساعد سابق في سلك الدرك، ورئيس مخفر المدينة لسنوات طويلة .. تحسبه قائد شرطة قاهراً، أو رئيس عصابة من الطراز الأول لسببين ..
– أولهما ..أنه يتحلى بشخصية أميل للخبث والمراوغة، إضافة للذكاء والفطنة والحجج الواهية التي يمتاز بصناعتها بسرعة، وبدقة وحرفية عالية، لدرجة أنه يستطيع إقناع الآخرين من جيوبهم.
– أما الثاني .. فهو الآمر والناهي .. شديد البطش، وصاحب اليد الطولى في المدينة وضواحيها، والذي جنن فيها الناس، ومخاتير الحارات، ومهربي “القجق”، ولصوص “الأنتيكا”، والقرباط “النور”، وبلهجة أهلنا بالرقة والجزيرة “الحجيّات”، وأيضاً يمكن إضافة بعض نساء المدينة المستورات اللواتي يعرفهنّ جيداً بل وأكثر من ذلك كان يعلم تماماً ما يقمن به سراً من معاشرة بعض المسؤولين في ليال حمراء يقضونها بين الخمرة، والنوم في أحضانهم بعلم أزواجهن أو بلا، لدرجة أنّ بعضهن يسرن تحت حراسته ليلاً آمنات إلى وكر العشق مطمئنات.
– أبو عبدو الفوسفوري لا ينسى.
الشباب المتحمس للاشتراكية، والذين اتخذوا من الشيوعية مبدأ وهدفاً، وشكلوا جماعة تجتمع سراً، واختارت المقابر مقراً متنقلاً لها، وأحياناً الخرائب الأثرية القديمة خلف سور المدينة، أو في بعض بيوت شبه آمنة في الزواريب والحارات الضيّقة ..
– ويجب ألا ننسى جماعة إخوان المسلمين الذين كانوا ينشطون حسب حرارة المواقف السياسية .. إنهم كالخفافيش في الليالي التي تعصف فيها المطاردات، وفي النهارات العادية ينشطون في تجمعاتهم السرية أو العلنية، و حسب الوضع .. إضافة إلى أنهم يكثرون من المواعظ وحلقات الذكر، والموالد والعزائم، والتعزية، والتي يتخللها التوجيه والتعليم والتحريم، وكثيراً ما كانت تقام في المساجد والتكايا، وأحياناً تكون للمضافات نصيبها (الأوُض العائدة للعشائر)، وهم يبتهلون وينشدون الأذكار فيها على قرع الدفوف، وليكتمل المشهد السريالي أكثر، والذي يتم بصحبة فصيل من الصبية الذين أجادوا ممارسة هذا الطقس بشكل محترف يفوق معلميهم، وخاصة بأدائهم الحركي بالجسد.. وأصوات حناجرهم التي لا تتوقف عن ترديدٖ مكررٖ لجملة حفظناها عن ظهر قلب .. الله حي ..الله حي .. الله يا مولانا ..
ـ أحياناً ينتهي هذا الطقس (بكبسة) من قبل جماعة الأمن “المكتب الثاني”، وهم على الغالب يفشلون لأن أبا عبدو الفوسفوري، وعلى طريقته يخبرهم ضامناً “الخوّة ” نصيبه المعلوم من الهبة، وبعض العطايا له ولشباب المخفر .. أحياناً يَمكر بهم أو بأحدهم حين تحمّر عيناه وقت يشعر أن أحدهم مثلاً غمز منه، أو انتابه إحساس بأنه “داس على طرف ثوبه”، كما تقول العامة في مثلها .. وقتها تقوم القيامة ولا تقعد، فتبدأ الوساطات والتدخلات والترجي وبوس الأيادي واللحى للعف والصفح .. حينها أتدخل أنا آمراً أبا عبدو قبول الصلح ..
– الفوسفوري كان أول الحجر الكبير الذي أزاحته من مكانه، وربطته مع كلبه الأسود، واتبعته مع فريق عملي، وعمل تحت إمرتي لسنوات طويلة، وخاصة في المهمات الصعبة الموكولة إليه، والتي تتعلق بتأديب بعض الملاكين والتجّار، وبعض المزارعين الأغوات الذين شعروا بضرورة الخروج عن الطاعة، وعدم الانصياع لأوامر المغفور له المرحوم، (الذي هو أنا)، أو تلبية ما يُطلب منهم.
– الفوسفوري .. كان أحد أهم الرجال الذين كانوا يعملون تحت إمرتي، ومعه كلبه الأسود المدرٓب تدريباً شرساً على تنفيذ ما يطلب منه، حتى إنه يصلب الموقوفين وقوفاً، وعلى رجل واحدة لساعات طويلة في ساحة المخفر، وعلى أحد حيطانه (ويا ويل من يسهى وينسى أن رجله المرفوعة قد لمست الأرض.. فمصيره العضّ وتمزيق الثياب، ونزف الدماء ..).
– شعار أبي عبدو الفوسفوري هو “ادفع وافعل السبعة وذمتٓها”، وهو ببساطة حريص على أمن وسلامة البلد من أي مؤشر ممكن يهدّده.
– الشيوعيون مطلوبون، وكذلك الإخوان أحياناً وأحياناً.. المهربون والقوٓادون ولصوص الأنتيكا .. حتى بعض المسؤولين الذين غرقوا بالفساد والرذيلة والحبل حول رقابهم معقود .. المهم الدفع أولاً وأخيراً وإلا على الأرض السلام.
– لقب بالفوسفوري لأنه شديد اللمعان، وخاصة بالليل يصحب معه كلبه الأسود في مغامراته الليلية وكمائنه الغريبة التي ينجزها بطريقة عجيبة تفوق خبرة رجال (السر خفيفة)، المخابرات جماعة “المكتب الثاني”، أو رجال مكافحة الجمارك .. سبحان الله.. مات الكلب بظروف غامضة، وتقاعد أبو عبدو من رئاسة المخفر والوظيفة، وهو الذي أطلق لحيته، وارتدى قنبازاً وعباءة واعتمر قلنسوة، وجمع زوجاته الثلاث ومطلقته أم أولاده الأولى، وأولاده وبناته وأحفاده، وأصهرته في شقق فخمة جمعتهم بناية طابقية كبيرة .. وافتتح محلات تجارية (وكالات) لبيع الأقمشة بتصرف أولاده وأصهرته، وتفرّغ للعبادة في الجامع الكبير الذي لا يخرج منه إلّا ليعود إليه .. لكنه لم ينس فضل الله عليه، فنقش على حجر مدخل بنايته “هذا من فضل ربي” .. هو اليوم بين جموع المشيّعين ورأسه المُغطى بالقلنسوة محشوٌ بصور الماضي التليد. يبقى السر الذي يحمله عني أمانة بعنقه ليوم القيامة حين ألتقيه ..
– انتهت صلاة الميت .. وتدافع الناس على حمل النعش من جديد .. إلّا أن الرجال الأربعة الأساسيين عادوا وحملوا النعش .. ثم أخذت الجنازة طريقها خارجة من المصلًى نحو المثوى الأخير .. حيث كان قد أتمَّ حفّار القبر تهيئته ليخلد المرحوم فيه ..
– رفع أبو عبدو الفوسفوري يديه نحو السماء يناجي ربه، ويدعو جموع المشيعين مشاركته الابتهال .. الله يا حي يا قيوم ..
الجمع يردد: آمين ..
الفوسفوري: اللهم خفّف عن عبدك عذاب القبر.
الجمع: أمين.
الفوسفوري: اللهم .. اغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
الجمع: .. أمين.
الفوسفوري؛ وقه شر المنافقين والحاسدين في الدنيا والآخرة، واحشره مع الصديقين المؤمنين، وصحابة رسول الله، والأولياء في جنات النعيم. الفاتحة يا إخوان.
– تحركت الجنازة وسارت .. أحبَّ مولانا قدًس الله سرّه .. أن يُتابع الاصغاء إلى بقية الأحاديث بفضول عنه وعن أفعاله يوم كان الآمر الناهي في البلد.
*يتبع في العدد القادم
مؤلف وناقد ومخرج مسرحي سوري