الطريق إلى المقبرة (4)

نص بصري
خبر عاجل
المعلم “ساكو” و”لوليتا” الرقّاصة
د. حمدي موصللي

بعدها تحرك موكب الجنازة باتجاه القبر المحفور والجاهز لاستقبال جسد المرحوم الطاهر، وأثناء سيرها أحب مولانا قدّس الله سرّه أن يتابع الإصغاء إلى بعض الأحاديث بفضول، أو قد يلمح بعض الأصدقاء الأوفياء السائرين في جنازته، ليستذكر بعضاً من أفعالهم أثناء العمل معهم، وقت كان الآمر الناهي في البلد.
تابع النظر من خرم ثقب صغير في التابوت، ومن بين المشيعين ظهر لمولانا المرحوم رجل نحيف طويل يحمل حقيبة خشبية مصندقة (شنطة سفر). يمشي خلف الجنازة مطرق الرأس، يضع نظارة طبية سميكة على عينيه معلقة بخيط أبيض يتدلى أمام وجهه. كان مرتدياً طقماً أسود من “الجوخ” الإنجليزي الثقيل ماركة “اللورد”، ويعتمر برنيطة إيطالية تعرف بالعامية السورية (الكُسكية). كان ينظر في ساعته الفضية السويسرية القديمة ذات الغطاء المعدني، والمعلقة بسلسلة فضية تصل إلى جيب صدريته الصغير. هي الساعة ذاتها التي أعطاها له المرحوم مولانا قدّس الله سرّه في الليلة التي تزوج فيها مولانا، قائلاً:
خواجة “ساكو”، من هذه الليلة أنت واحد منّا. (بالعامية) وهاي الساعة السويسرية هدية إلك مني. السر بيني وبينك زواجي من “لوليتا” سر مدفون في بير.. مفهوم خواجة حبيبي؟
ساكو (بلكنته المكسرة) يرد:
مفهوم، حبيبي. سرّك في بير. أنا بنام مرتاح وراسي فادي، خيّو.
المعلم ساكو، شخصية أرمنية ذكية وهادئة على الرغم مما يتحلى به لسانه من كلام رصين يفيض حلاوة حين يتحدث إليك، لكنه يعجز عن نطق بعض المفردات العربية فينطقها مكسرة. كما أنه أميل إلى الدهاء وأحيانًا إلى الغموض. وهو الميكانيكي المعلم الذي ذاع صيته في الجزيرة والفرات، والمسؤول عن ورش إصلاح محركات الديزل والمضخات على ضفاف أنهار الفرات، والخابور، والبليخ مع أبناء جلدته. لكنه اعتزل الورشة مبكرًا ليتحول إلى خواجة خبير ومهرّب كبير (للأنتيكا) بتسهيل من أبو عبدو الفوسفوري وحمايته، وبتوجيه مولانا قدّس الله سرّه الذي ضمه فيما بعد إلى فريق عمله وأطلق عليه لقب “الخواجة”.
من أدب السيرة: “المعلم ساكو” أرمني من الجيل الثاني الذي وُلد في بلدة تل أبيض السورية بعد وصول أهله وأبناء جلدته (مع من جاء من السوقيات) من أرمينيا ومن بلدان، وسهول، ومرتفعات تركيا العثمانية بعد المجازر التركية الوحشية التي حلت بهم.
سنوات طفولته الأولى قضاها في تلك البلدة الحدودية التي يفصلها الخط الحديدي لقطار الشرق السريع عن تركيا المجاورة. ثم انتقلت الأسرة بعد وفاة كبيرها إلى حلب لتستقر فيها.
ساكو الصبي اليتيم.. عمل صبياً في بوفيه ملهى ليلي في حلب، وفي النهار عمل أجيراً في ورشة إصلاح وصيانة المحركات في حي الميدان عند المعلم الأول “مكرديج بغدويان” الذي مات صدفة تحت محرك سيارة “ديزل” انزلق على رأسه فهرسه، وهو يقوم بإصلاحه.
“ساكو”، شأنه شأن بقية الصبية والشباب الأرمنيين الذين دأبوا على العمل الميكانيكي وإصلاح أعطاله، بل وأبدعوا في تصميم بعض الآليات، وهذا ميّزهم عن أغلب الأقليات والطوائف في ذلك الوقت. ومن يومها “ساكو” ولسنوات خلت تفرّغ للعمل في الورشة نهاراً مسؤولاً عنها لكي يساعد أسرة معلمه المتوفي، وليلاً في الملهى “الطاحونة الحمراء” يعمل رجل بوفيه وجامعاً للنقوط من تحت هزّ خصر الراقصة “لوليتا” التي رعته صبياً صغيراً مذ قدومه إلى حلب مع أسرته، واحتضنته لدرجة أنها خصصت له غرفة في بيتها يقيم فيها.
هو مدمن خمرة، وصاحب مزاج يخدم الزبائن بحب، حتى إنه يتخلّى أحياناً عن أجرة ليلته وما يأتيه من (بخاشيش) لصالح زبون أفلسه لعب القمار.
إضافة إلى كل ذلك، هو بيت الأمان ودفتر أسرار “لوليتا” الخاص، وحافظ لودّها. لا يتركها ولا يكلّ من خدمتها، ويتنقل معها من كازينو لآخر، حاملاً حقيبة أغراضها وأميناً على أموالها، حتى إنه وبطلب منها يساهر الزبائن معها إلى مطلع الفجر. وقد تحمرّ عيناه الذئبية أحياناً من أحد الزبائن الأغلاظ فيلجأ إلى أسلوبه المعهود، والمتفق عليه مع “لوليتا”، فيفاجئ الزبون بقلب الطاولة عليه متضرعاً بدوار الساعة أو ما يعرف طبياً بمرض (الصرع) الذي ينتابه بين الحين والآخر. وبالحقيقة مرضه تمثيلية أتقنها “ساكو” بحرفية عالية اعتاد على تأديتها في مثل هذه المواقف. والغريب أن الزبون سرعان ما يغضب وينفعل، وسرعان ما يهدأ أيضاً بتدخل “لوليتا” المباشر شارحةً له معاناة المسكين “ساكو” المريض بمرض الصرع. فيهدأ الزبون ويصدق، بل وينتابه شعور بالحنين نحوه، فبدلاً من أن يوجه اللكمات إليه، تراه يواسيه ويكافئه بمبلغ من المال تخفيفاً له عن ألمه ومرضه، وإكرامية لتفانيه في خدمته. إنه مشهد درامي أعفى “لوليتا” الحزينة عليه من تلبية طلب الزبون الذي اعتذر لها وواساها أيضاً. ولا بأس أن يكون “لوليتا” نصيب من الإكرامية التي يدفعها الزبون لـ”ساكو” المسكين، إضافة إلى السعر المضاف على الطاولة التي انقلبت عليه، والذي سيدفعه أيضاً لمرتين ثمناً للطاولتين: الأولى التي انقلبت والثانية المتجددة (دبل). هذا هو حال بعض الزبائن غير المرغوب بهم، وما يحدث هو مشهد مفتعل لإنقاذ الموقف خوفاً على “لوليتا” من أن يتمادى الزبون، ويطلب وصالاً منها في غرفتها فتمتنع، وقد تحصل عندها كارثة. كل شيء مرصود ومحسوب بدقة.
لكن الذي حصل في ليلة صيفية لاهبة، وكان الزبون هو المرحوم ذاته، أمر يثير الدهشة والغرابة!
سهرة حمراء استمرت حتى وقت متأخر من الليل. يبدو أن مولانا قدّس الله سرّه كان بطلها هذه المرة بلا منازع، وليس خفياً علينا، ونحن نعرف أقرب الناس إليه، والذي حدثنا مرة بالخفاء عن سرّ الليلة هذه، وما نتج عنها، إلا أنه أكد على أن مولانا قدّس الله سرّه اعتاد زيارة الملهى في أوقات محددة من السنة، وبشكل خفي عن العيون. في كل زيارة يكون الملهى محجوزاً على حساب المرحوم قدّس الله سرّه، ومعه أبو عبدو الفوسفوري، والمختار، وكبير التجار، والأعيان، وآغا من أغاوات حلب أو الرقة أو الجزيرة، وبعض العملاء، والسماسرة، وثمة نساء من الغانيات أو المستورات من زوجات النخبة اللواتي يشاركن في السهرة وأفعالها.
المهم ما حصل ليلتها، وعلى ذمة الراوي، أن المختار رقص بنشوة السكران، وتمايل فاتحاً عباءته مثل جناح عصفور “الصعوة” حين يهبط أو يطير، وأن رئيس البلدية ظهر فجأة بين الحضور وشاركهم متعة الرقص والشرب، وأن النسوة بدأن الهز على أنغام فرقة التخت الشرقي وموسيقاها، وشاركن رقص “لوليتا” الذي أذهل الحضور بصدرها النابض ومؤخرتها المكتظة، وفخذها الممتلئ، وخصرها الميّاس، وهزّ لحم بطنها البض، ودلعها، وهي تغني وكأنها “ليلى نظمي”: ما شربش الشاي.. أشرب أزوزة أنا. حتى إن كبير التجار قد نسيّ نفسه في زحمة الهذيان، وضياع العقل، وهيام الروح. انفجر بصوته الرنان، واطلق له العنان.. وراح ينشد بفم مليان.. ابتهال نبينا المصطفى العدنان.. فسرعان ما انقلبت الأجواء، و تحول المكان.. من طرب وغناء ورقص وفقش ياسلام! وكان ما كان، وتحول المكان.. إلى “تكية” أو “حوزة” غفران! وكأننا في “تكايا” أو “حوزات” النجف، أو كربلاء، أو صنعاء، أو عُمان، أو غيرها من المدن والبلدان.
( الله ..الله .. الله..
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع..
الله.. الله.. الله..
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة
مرحبا يا خير داع..
الله.. الله.. الله..).
في الصباح، وبعد الفجر وإقامة الصلاة، انطلقت سيارة الكاديلاك “موديل 1954” وهي تحمل مولانا وعروسه “لوليتا”، ومعهما “ساكو” الذي تربع على الكرسي الأمامي في السيارة، بعد أن وضع الحقيبة الخشبية المصندقة الخاصة بأغراض ومقتنيات سيدته “لوليتا” في “باكاج” السيارة. ومن لحظتها قرر المغادرة والتخلّي عن الورشة وحلب.
قال ساكو: بأم عيني.. صلى مولانا صلاة الفجر، وزوجته “لوليتا” من خلفه تصلّي محجّبة بخشوع لم تعرفه جلسات الاعتراف والتوبة بالكنيسة في حضرة الكاهن التي كانت تعترف بين يديه بخطاياها.
قال ساكو: (بلهجة مكسرة): والله العظيم شغلة خيُو!! مصاري بتقلع عين النسر!! شي بجنن خيو!
ما حدث أن لوليتا، وهي المسيحية التي أسلمت بسرعة البرق على يد شيخ الجامع الكبير، الذي تم إحضاره قبيل الفجر بالاتفاق المسبق معه.. بالمصاري كل شيء محلول. وعلى عجل، لقّنها قسم الشهادة، ثم قرأ الفاتحة وعقد النكاح بحضور أبو عبدو الفوسفوري وآغا من أغاوات حلب!
وعند ظهيرة اليوم ذاته، مولانا يدخل المدينة مع عروسه سراً.. هناك في المدينة حيث أسكنها في نزل، وفي حارة قريبة من الضفة الأخرى للنهر بعيداً عن العيون.
في المدينة أيضاً.. إضافة إلى عمله في خدمة الست، بدأ المعلم “ساكو” عمله بالمحركات، وأسس عدة ورش، ووضع عليها من يرأسها، وطافت أرجاء الجزيرة والفرات.
وأيضاً في المدينة.. تأسس أول بيت للدعارة الخفية ولعب القمار، يأمه المسؤولون والعاهرات وأنصاف المثقفين، ونساء مستورات، وخلايا بعض الأحزاب التي تجتمع فيه أحياناً وسراً للتمويه، مع أنها تدفع أجور الاستضافة. وفيه نصيب من أرباحه للجنائية والجمارك، وجماعة الأمن السياسي (المكتب الثاني) من أجل غض النظر. و”لوليتا” الرقاصة، سيدة المجتمع المخملي، المرأة الحديدية التي حكمت المدينة لسنوات، هي من تدير شؤونه، وقادرة على أن تدوس بكعب قندرتها على أكبر شارب في هذا البلد. فهي لديها أرشيف كامل لكل منهم، بدءاً من قس الكنيسة وشيخ الجامع، ومروراً برئيس البلدية وبعض المخاتير، وانتهاءً بأصغر دركي في البلد، وحتى أسرار وأفعال بعض نساء المسؤولين، وخاصة المستورات منهن.
أصبح النزل علامة فارقة في تاريخ البلد، حافلاً بالقوادة والتهريب والمطاردات والسياسة. إنه السجل الخفي للبلد.. إنه نزل السرور.
الخواجة ساكو.. اللقب الذي أسبغه مولانا عليه منذ أهداها الساعة السويسرية، والذي لم يستعمله لسبب يرى أنه لا يليق إلا بالرجل الغني صاحب التجارة والعقارات. أما عنه، فهو الرجل الميكانيكي وصبي البوفيه في ملهى ليلي، ويقوم على خدمة الراقصة “لوليتا” وخدمة أسرة “مكرديج بغدويان” معلمه المتوفى.
اليوم، وبعد عشر سنوات مضت منذ غادر الورشة وحلب، قرر أن يستعمل لقب الخواجة بعد أن ترك المهنة لأصحابها وللأبد، واختار التهريب لسببين هما: إجادته لعدة لغات أجنبية، وهذا يسهل عليه التفاهم مع المهربين ومشغليهم من جنسيات أخرى. ومن ثم بدأ يعمل لحسابه الخاص في تهريب “الأنتيكا” وبيعها، إضافة إلى “العمولات” التي يحصل عليها جراء السمسرة وتخليص أمور العملاء. لكن ما يحصل عليه نصفه للمدام معلمته ومربيته سيدة المجتمع “لوليتا”، مع براءة تقدير من مولانا، فهو مطلق الصلاحية في الأمور التي تخص النزل.
و”ساكو الخواجة”، الذي يحن إلى الليالي الحمراء ولعب القمار، لا ينسى أموره الدنيوية تجاه سيده مولانا وسيدته “لوليتا”. فهو دائم التوظيب والتجهيز للحفلات الليلية الصاخبة والمشبوهة. فهو من يتواصل مع أصحاب المقامات الرفيعة التي يختارها مولانا والسيدة حرمه السرية، للسهر والمتعة ولعب القمار وأشياء أخرى.
ماتت لوليتا بظروف غامضة، علماً أنها تبرعت بعشرة آلاف ليرة للبلدية لكي تنجز سور المقبرة الوحيدة بالبلد.
يبقى السر محفوظاً عند الخواجة “ساكو”، إضافة إلى “الشنطة السرية” التي كانت قد وضعت فيها قرائن (أرشيفها السريع)، الشاهد على كل قامة من قامات البلد الذين أمّوا النزل، ومارسوا طقوسهم وشعائرهم ومؤامراتهم في أحضان الغواني، وبإشراف الثلاثي مولانا ولوليتا الرقاصة وصبي البوفيه ساكو الخواجة.
أخيراً.. وصلت الجنازة إلى القبر.. وكان حفّار القبور الشيخ “سماوي الأعرج” ومعه حماره الذي ربطه بحبل إلى شاهدة قبر.. بالانتظار.
مؤلف وناقد ومخرج مسرحي سوري
يتبع
هوامش:
“ليلى نظمي”: مغنية مصرية اشتهرت بأغانيها الرخيصة في الستينيات والسبعينيات.