بين الحقيقة والخيال

ستار كاووش

خرجتُ من متحف لام وأنا مُحَمَّلٌ بفتنة الأعمال الفنية والابتكارات المختلفة التي ملأت صالات العرض. وما أن وضعتُ قدمي خارج الباب الزجاجي للمتحف، حتى انعكس لون الحديقة الأخضر على وجهي.
حديقة مترامية الأطراف، صُمِّمَتْ على نحو خاص كي تتوزع فيها بعض الأعمال النحتية الكبيرة، فكانت مناسبة ممتعة للتجول بين هذه الأعمال التي أنجزها أساتذة كبار من فناني العالم. ابتدأت بعمل كبير جداً للفنان البريطاني ريتشارد ديكون، عنوانه (بين الحقيقة والخيال)، وهو بامتداد عشرة أمتار أفقياً، فيما ارتفاعه ثلاثة أمتار، وقد أنجزه خصيصاً للمتحف سنة ١٩٩٢ باستخدام صفائح فولاذية مطلية بلون رمادي، ويَبدو هذا العمل متحركاً بهيئته التي تشبه سطح بحر متموج أو منديل يشير للوداع، وحين ابتعدت عنه أكثر، بدا كأنه دبوس كبير أو حتى قشرة فستق. هذا العمل يعتمد على جمالية الحجم الكبير والمهول الذي يفاجئ المشاهد، ويجعله يقترب منه متحسساً سطحه الجذاب اللامع، مثلما فعلتُ أنا بالضبط. تركتُ قشرة الفستق الضخمة ورائي، وإنطلقتُ في أرجاء الحديقة، وما أن إنعطفتُ في إحدى زواياها حتى كدتُ أتعثر بمجموعة من الأولاد والبنات الذين أخذوا مكانهم فوق العشب، وقد انتصب بجانبهم عمل الفنان جاك ليبشيتز وكأنه راية ترفرف فوق رؤوس هؤلاء العشاق الذين جعلوا الحديقة الخضراء بساطاً واسعاً لهم. منح الفنان ليبشيتز لهذا العمل البرونزي عنواناً غريباً، هو (أغنية حروف العلة)، حيث تبرز قاعدة التمثال الأسطوانية المرتفعة كأنها إحدى المسلات القديمة، فيما يختلج فوق القاعدة شخصان متداخلان وكإنهما كائن مجنح على وشك الطيران، وهذا العمل يقترب من أعمال ليبشيتز الأخرى التي تناول فيها عازفي القيثارة. عنوان العمل هنا مستمد من قصة مصرية قديمة تتعلق باكتشاف ورق بردي كُتبت عليه صلاة سُمِّيَتْ أغنية حروف العلة، وهي أغنية استخدمت فيها حروف العلة فقط، كان الغرض منها السيطرة على قوى الطبيعة. وقد قام ليبشيتز بإنجاز هذه النسخة من العمل بشكل خاص للمتحف، مع إضافة بعض التعديلات كمراعاة للتفرد عن نسخة العمل الأخرى الموجودة في باريس، وقد أخذ العمل مكانه في الحديقة سنة ١٩٩٣.
أكملتُ طريقي في الحديقة، فلمحتُ من بعيد عملاً للفنان يوجين دودياخ، وهو بعنوان (ثلاثة أشخاص) وقد أنجزه بمادة الحجر وبطريقة تجريدية سنة ١٩٩٨، ويتكون من ثلاث كتل متحركة كأنها سيقان لأشخاص في حالة مشي أو حركة، مع بعض الحزور التي حولت العمل إلى ما يشبه بقايا بناء قديم، كذلك أضافَ بعض الحافات المتدرجة التي منحت العمل بعض الحيوية والحركة التي ذكرتني بمنحوتات برانكوسي ولوحات الرسام هورست. غادرتُ الأشكال الثلاثة التي اختفت خلفي كأنها مشابك غسيل عملاقة، وسحبت نفسي نحو عمق الحديقة، وهناك خلف بعض الأشجار لفتت انتباهي حركة في الفضاء، تأملتها جيداً فلم تكن سوى عملاً كبيراً للنحات ألكساندر كالدر، الذي اشتهر بمنحوتاته التي تتحرك في مع حركة الهواء. اقتربت من العمل أكثر، فتعرفتُ عليه جيداً بعد أن اتضح بلونه الرمادي الداكن كأنه خيمة، فيما صارت البقع الحمر والزرق التي تتحرك مع لمسات الهواء المنعش، كأنها فراشات ملونة ترفرف فوق عشب الحديقة. منح كالدر عنواناً غريباً لعمله (صليب الجنوب)، وكنتُ قد شاهدتُ نسخة من ذات العمل بمتحف جورج بومبيدو في باريس.
قطعتُ الجادة الصغيرة التي في وسط الحديقة، فظهرت لي (امرأة تمد ذراعيها) وهي منحوتة بيكاسو التي شغلت الجانب الأيمن من الحديقة، وهذا العمل قامت لويز ليريس وزوجها ميشيل ليريس بإهدائه إلى المتحف ليكون ضمن معروضات الحديقة، ولويز هي مقتنية أعمال فنية، وتنتمي إلى عائلة جامع الأعمال الشهير كاهنويلر ذاتها، فيما زوجها ميشيل كان شاعراً وكاتباً. العمل بارتفاع خمسة أمتار، وأُنْجِز بواسطة الأسمنت والحصى، وهو يعكس رؤية بيكاسو التكعيبية وطريقته في تحوير الأشكال التي يرسمها، وقد تحول هذا العمل إلى إحدى أيقونات المكان ومنحَ الحديقة بهجة وألفة، حتى إن بعض العوائل قد افترشوا المكان المحيط به متمتعين بمشاهدة العمل الفني تحت ضوء الشمس الدافئة.
وهكذا، لم يكتفِ المتحف بالأعمال الفنية المذهلة التي تتوزع بين قاعاته، بل حوَّلَ حديقته مترامية الأطراف إلى متحف من نوع آخر، وفي غمرة جولتي في هذه الظهيرة وسط هذه الأعمال الفنية التي عُرِضَتْ في الهواء الطلق، رأيتُ كيف بدأ الفرنسيون من الأحياء القريبة للمتحف بالوفود إلى الحديقة وافتراش عشبها لصنع حفلات صغيرة هنا وهنا. لقاءات وطعام وأقداح، طاولات تنتصب بسرعة وخيام صغيرة تقي حر الشمس. البهجة حاضرة وحفلات الشواء تأخذ مداها في فضاء المكان، ومع مرور الساعات اتسعت الطاولات واكتسبت الوجوه لوناً برونزياً بعد أن لوحتها الشمس، وجعلتها أكثر إشراقاً، فيما انتصبت بعض الأكشاك لبيع الطعام والشراب، وصارت الأصوات تعلو أكثر وأكثر، بصخب محبب، لناس يحتفلون وسط الأعمال الفنية، بل ويعيشون معها.
فنان تشكيلي وناقد عراقي