رحلة القطار الأخيرة

زهير رمضان
في بلدة صغيرة تتناثر فيها المدارس والمزارع، كانت منال فتاة جميلة وذكية، تحب الحياة رغم هدوئها البسيط. تعمل معلمة للغة العربية في إحدى المدارس الابتدائية. أما جبير، معلم اللغة الإنجليزية، فكان شاباً طموحاً ومجتهداً، لكنه خجول للغاية.
يقول جبير: “في الصباح أمضي وقتاً في الانتظار على موقف الباص. قد يحضر باص ويتبعه آخر وأنا في مكاني أتردد في الصعود متعللاً بالازدحام أو الرد على مكالمة في الجوال. وحين تصل وتلقي التحية، أشعر بأن يوماً جديداً قد بدأ. نذهب إلى العمل سوياً دون أن نكف عن تبادل الأحاديث البسيطة والتعليقات المقتضبة عن الطقس أو الزملاء في المدرسة أو الدروس.
مر وقت طويل على مشوارنا اليومي معاً دون أن نكف عن تبادل النظرات. وقد حان الوقت الذي قلت فيه لنفسي: كفاك انتظاراً يا ولد، ولا بد أن تبوح لها بمشاعرك اليوم. وحين نغادر الباص في الطريق إلى المدرسة، تنشغل بمكالمة على جوالها لا تنتهي إلا عند الدخول إلى المدرسة. أتجه إلى صفي وأنا أشعر بخيبة الأمل ومرارة الهزيمة، فأنا لم أستطع البوح لها بحقيقة مشاعري. لا شك أن الصباح وقت غير مناسب. حسناً، ليكن صباح الغد. ولماذا الانتظار حتى الغد؟ وجوالها اللعين لا يكف عن الطنين! ليكن في الحصة القادمة؛ سأدعوها لتناول كأس من العصير بعد الدوام. نلتقي في غرفة المعلمين”.
بين الدروس، وبين أكواب الشاي التي يتقاسمانها في الاستراحة، كان هناك شعور صامت لكنه عميق. لا كلمات واضحة، فقط ابتسامات خجولة وتبادل نظرات مختلسة.
“منال، أود لو تقبلين دعوتي إلى كأس من العصير”.
“آسفة، أنت تعلم بأنني لا أستطيع لأنني أعمل في إعطاء الدروس ويجب ألا أتأخر على المواعيد”.
الحمد لله أنها لم توافق، لأني غير متأكد من قدرتي على مفاتحتها بالأمر.
مع مرور الأيام، أصبح السير معاً إلى المنزل عادة يومية. رغم بُعد المسافة، كانت خطواتهما تتباطأ كلما اقتربا من نهاية الطريق، وكأنهما يخشيان لحظة الفراق اليومية.
عدت إلى البيت وتناولت طعام الغداء بصمت، وانسحبت إلى غرفتي لأرتاح من عناء هذا اليوم. دخل أخي الأكبر، الذي رفع الكلفة في التعامل معي منذ حين، وهو يسألني عما بي. طلبت منه إعداد الشاي لأنني أرغب في أخذ رأيه بموضوع حساس.
حول طاولة الشاي، تنهد أخي وتمتم بصوت مفهوم أنه كان يرجو مثل هذه الفرصة أيضاً لمصارحتي بأمر يشغله. قال إنه يحب ابنة الجيران، لكنه لا يجرؤ على مصارحتها. وحين شعر بأني لست معه وبأنني في واد آخر، أبدى أسفه لاتكاله عليّ في مثل هذا الأمر المهم بينما لا أكلف نفسي عناء الإنصات إليه.
حاولت الاعتذار له لكثرة مشاكلي، وأحاول التخفيف عنه بأنصحه بأن ينتظرها في مدخل البناء ويفاتحها بالأمر. قال إنه انتظرها كثيراً، وكانت تقف قليلاً وكأنها تنتظر منه أن يقول شيئاً، لكن لسانه لم يطاوعه. نصحته بأن يكتب لها رسالة. خرج أخي من الغرفة سعيداً بهذا الاقتراح، وبدأت بالغوص في عالم الخيال… أحلام اليقظة تنتابني محاولًا إيجاد الوسيلة المناسبة لمصارحة منال.
في صباح اليوم التالي، لم أكن أعتقد أنني وجدت حلًا يرضيني، فانطلقت باتجاه العمل مقرراً ألا أحسب حساباً لأحد. وجدتها على موقف الباص. وكعادتها، ردت التحية بابتسامتها المعتادة. وقفت إلى جانبها وأنا شارد الذهن أفكر بإيجاد طريقة لأبدأ الحديث معها.
قطعت شرودي قائلة:
“ما بك يا زميل؟”
“لا شيء يا منال، فقط ذهني مشوش قليلاً.”
“آه، بالأمس رفضت دعوتي، فما رأيك اليوم؟”
قلت لها: “اسمعيني يا منال، أريد أن أكلمك بموضوع”.
“تفضل”.
وكان الباص قد توقف، وتزاحم عليه الركاب. قالت:
“ألا تريد الصعود؟”
قلت: “لا.”
صعدت هي، وبقيت واقفاً أشيع الباص بنظرات ناقمة. وجدتني أضغط على رقمها في جوالي، وحين جاءني صوتها، قلت وبدون مقدمات: “أنا أحبك!”.
مرت لحظة صمت قاسية، ثم سمعتها تضحك قبل أن تقول:
“كل هذه الارتباكات والدعوات الملحة لكي تخبرني أمراً أعرفه جيداً منذ وقت طويل؟ وأنا أيضاً”.
بعد نهاية امتحانات الفصل الدراسي الأول، وفي منتصف العام الدراسي، قررت منال السفر لزيارة أهلها وأقاربها في مدينتهم. لم تُفصح كثيراً عن تفاصيل سفرها، وودعت زملاءها سريعاً. في القطار، وبينما كانت تتأمل الحقول المترامية، تفاجأت بجبير يجلس في المقعد المقابل. تلعثم كلاهما للحظة، ثم ابتسم جبير بخجل.
قال لها إنه ذاهب إلى العاصمة لبعض الأعمال. كان اللقاء في القطار فرصة نادرة؛ فقد تكلما كثيراً، وضحكا على بعض ذكرياتهما من المدرسة.
عندما وصل القطار إلى وجهة منال، ودعها جبير بابتسامة حزينة، ثم أكمل رحلته إلى العاصمة. لم تكن منال تعلم أن هذا الوداع سيكون الأخير.
عادت الأيام إلى رتابتها، لكن جبير كان ينتظر عودتها بفارغ الصبر. مرت عطلة منتصف العام ولم تعد منال. مع كل يوم تأخرها، كان قلبه يثقل بالحزن.
أخيراً، قرر أن يسأل عنها، فاكتشف الحقيقة المؤلمة: منال ارتبطت بشاب من طائفتها، خطبة رتبتها العائلة سريعاً خلال رحلتها.
حاول جبير التواصل معها، لكنه فشل. حاول الاتصال بها مراراً، لكن هاتفها كان مغلقاً. لجأ إلى أختها، التي تعمل مذيعة في التلفاز المحلي. عبر مكالمة قصيرة، أخبرته أخت منال أن خطيبها يغار بشدة وقد أتلف شريحة هاتفها. كانت كلماتها مثل سهم في قلبه، لكنها قالتها بحنان، وكأنها تدرك ألم قلبه.
لم يستطع جبير النسيان، وحاول أن يمضي قدماً رغم مرارة الفقد. لكن في كل مرة يسير فيها في الطريق الطويل إلى المدرسة، يتذكر خطواتها بجانبه، وابتسامتها التي كانت تضيء صباحاته.
كل شيء حوله كان يذكره بها. لذا قرر السفر إلى خارج البلاد. لم تكن النهاية كما حلم، لكنها كانت درساً عن الحب الذي لم يُكتب له أن ينضج.
الرقة ـ سوريا