طه الطه .. عاشق التاريخ والهوية

عبد الكريم البليخ

استحوذت المواقع الأثرية والتقاليد الشعبية على اهتمامات طه الطه مؤرشف تاريخ الرقة وحافظ تراثها منذ طفولته. في تلك الأزقة الضيقة وسط مدينة التاريخ والأثار ولد طه الطه في عام 1947 في بيئة فقيرة، حيث كان يقضي ساعات طويلة متأملاً في الأبنية القديمة والتلال الأثرية المحيطة بالمدينة. بدأ بجمع الأدوات الفخارية والمخطوطات والوثائق القديمة دون أن يدرك حينها أنه سيكون واحداً من أبرز المؤرخين والموثقين للذاكرة الثقافية السورية.
كرّس الطه نصف قرن من عمره لتوثيق وتأريخ التراث الفني والثقافي، مؤمناً بأن الثقافة هي الروح الحقيقية للأمم. أسس متحفاً فريداً في الرّقة، ليكون بمثابة أرشيف حي لذاكرة المدينة والمنطقة. لم يكن متحفه مجرد مكان لعرض القطع الأثرية، بل كان مركزاً ثقافياً نشطاً، ضمّ آلاف القطع النادرة من المخطوطات والصحف التاريخية والأدوات الفلكلورية، فضلاً عن الأعمال الفنية لفنانين عرب وعالميين.
لم يتوقف شغفه عند الآثار والمخطوطات، بل امتد إلى التراث الشعبي، فوثّق الأهازيج والأغاني الفراتية، وسجل العادات والتقاليد، ما جعله مرجعاً لا غنى عنه للباحثين والمؤرخين.

الراحل طه الطه في متحفه الخاص
واجه الطه صعوبات جمّة في سبيل تحقيق مشروعه الثقافي. لم يلقَ الدعم الكافي من المؤسسات الرسمية، بل رُفضت عضويته في اتحاد الكتاب العرب بحجة أنّ الأرشفة ليست عملاً إبداعياً، رغم اعتراف المؤسسات الأكاديمية بأهمية جهوده. ومع ذلك، واصل عمله بإصرار، مدفوعاً بإيمانه العميق بأن حماية الثقافة مسؤولية فردية قبل أن تكون مسؤولية حكومية.
في السبعينيات، أسس الطه متحفه الخاص واستمر في تطويره حتى اضطر عام 1988 إلى نقله إلى منزل مجاور لمنزل الأديب عبد السلام العجيلي، بعدما امتلأت أجنحته بالمقتنيات الثمينة.
نظّم الطه في متحفه أنشطة ثقافية سنوية، استضاف خلالها أدباء وفنانين بارزين مثل عبد الرحمن منيف، ليلى العثمان، الطيب الصالح، إلى جانب علماء آثار عالميين مثل أنطوان مورتغات وموريس فانلون. ورغم الشهرة التي حظي بها على المستوى الدولي، ظل اسمه غريباً في وطنه، ولم ينل التكريم الذي يستحقه.

الطه يؤرشف مايقع بين يديه من مقتنيات التراث
كان متحف الطه يضم أربعة أقسام رئيسية، ومنها قسم الآثار حيث ضم قطعاً تعود لعصور تمتد من 6000 ق.م حتى العصر العباسي، وبعضها تبرع به لمتحف الرقة عام 1981، وقسم الفلكلور الشعبي، الذي شمل تسجيلات مصورة للأعراس والمآتم التقليدية، فضلاً عن الأزياء والأدوات الزراعية والمنزلية، فضلاً عن قسم الأرشيف الضخم الذي احتوى على أرشيف لأكثر من 1000 شخصية إبداعية عربية وعالمية، إضافة إلى الصحف والمجلات التي يعود بعضها لأكثر من قرن، ناهيك بقسم الفن الحديث، حيث ضمّ أعمالًا لفنانين عالميين، ما جعل المتحف مركزاً ثقافياً عالمياً بحق.
لم يكن الطريق أمام الطه مفروشاً بالورود، إذ لم يحصل على أي دعم من الجهات الثقافية الرسمية. مع اندلاع الحرب السورية عام 2011، بدأ حلمه يتهاوى شيئاً فشيئاً، حتى جاء عام 2015 ليشهد الكارثة الكبرى، عندما اقتحم تنظيم داعش متحفه ونهب جميع مقتنياته، محولاً إرثه الثقافي إلى غنائم محمّلة على شاحنات نقلت إلى أماكن مجهولة. أما ما تبقى منها، فقد دُمِّر تحت القصف العنيف الذي شهدته المدينة في الأعوام التالية.
اضطر الطه لمغادرة الرّقة في رحلة تهجير قسرية انتهت به في مدينة شانلي أورفا التركية، حيث حاول أن يستعيد شغفه الثقافي رغم الغربة والمعاناة. بدأ بجمع الصحف والمجلات العربية وأرشفتها، كما وثّق سير الفنانين المحليين، وأطلق مشروعاً لتوثيق المعالم الأثرية في أورفا عبر التصوير الفوتوغرافي، محاولاً مد جسور ثقافية بين السوريين والأتراك.
لم تكن غربته سهلة، فقد عانى من الفقر والإهمال، ما أثر بشكل كبير على صحته. أصيب بجلطة دماغية، ولكن سوء التشخيص أدى إلى عزله ظناً بأنه مصاب بفيروس كورونا، ما أدى إلى تدهور حالته الصحية حتى وافته المنية في 27 سبتمبر 2021، في ذات اليوم الذي اعتاد فيه إقامة معرضه السنوي، وكأن القدر أراد أن يربط بين حياته وإرثه حتى اللحظة الأخيرة.

طه الطه مؤرشف تاريخ الرقة وتراثها
قال عنه الروائي أيمن ناصر: “عاش وحيداً، ومات فقيراً وحزيناً”، معبراً عن الألم الذي رافقه حتى آخر أيامه. كان متحفه ذات يوم قبلة للمثقفين والمؤرخين، لكنه لم ينل التقدير الذي يستحقه. لم يكن الطه مجرد جامعٍ للآثار والوثائق، بل كان قلباً نابضاً بحب التراث، يسعى إلى خلق ذاكرة جماعية تحفظ للثقافة العربية هويتها.
رغم رحيله، بقي إرث الطه شاهداً على رجل أفنى حياته في سبيل الثقافة والتاريخ. ترك خلفه أرشيفاً لا يقدَّر بثمن، وسيرة استثنائية لمثقف عضوي ضحّى بكل شيء من أجل مشروعه الثقافي.
قد يكون جسده قد وُري الثرى بعيداً عن مسقط رأسه، لكن أعماله وإبداعاته ستظل شاهدة على نضال رجل آمن بأن الثقافة هي الروح الحقيقية للأمم، وحاول حتى آخر لحظة أن يحافظ على الهوية الثقافية للرّقة وسوريا رغم التحديات الجسيمة.

في متحفه المتواضع