نص بصري..(ميت لا أطيق الكفن)

أسرار عش “الدبابير” في صندوق الحاجة “لوليتا” المثير!
ـ 6 ـ
يكتبها الدكتور
حمدي موصللي
ـ انتشر المشيّعون حول القبر، الذي كان على هيئة صندوق مفتوح من جهة “القبلة”، لكي تكون أبصارهم موجهة باتجاه النعش، وليشهدوا اللحظات الأولى من إنزال جسد المرحوم وهو يوارى الثرى. بل وليتأكد البعض منهم، وخاصة من آذاهم (مرمط حياتهم وقلبها رأساً على عقب)، من أن الدفن قد تمّ حقيقة، وأن المرحوم مات فعلاً، ودفن دون مأسوفٍ عليه وبلا رجعة. أما أغلب المشيّعين فهم من أبناء البلد ومن عامة الناس؛ بينهم الوجهاء والمدراء وبعض رؤساء الدوائر الفنية والمؤسسات، ورجال المخفر وبعض أصحاب المحلات التجارية، وغيرهم، حضروا حبّاً بالمرحوم النوراني صاحب الكرامات، ووفاءً للعائلة الفرواتية الكريمة التي قدّست طلتها سرّها، لكي يشهدوا ويتّعظوا من أن الموت مدركهم مرة لا محالة، وأن الموت لا يفرّق بين الغني والفقير، والقوي المتجبّر والضعيف الهالك، وأنهم متساوون في الموت، وفي الحفرة ذاتها، وسيوارون الثرى؛ فلا مفرّ من حتمية ذلك.
ـ تقدم حاملو النعش الأربعة إلى حافة القبر، حيث كان “سماوي الأعرج” ينتظر بشغف داخلي لا يفصح عنه إلا لنفسه. لحظةً، عبرت عيناه الذئبيتان عن ذلك، وخاصة لمن يعرفُ تاريخ هذا الثعلب.
ـ هيأ يداه الطويلتان بعد أن افردهما ومدّهما لاستقبال الجسد. فجأةً، وبين المشيعين، قطع المشهد عندما تقدم الخواجة “ساكو” نحو الحفار، واضعاً صندوق الأسرار بين يديه الممدودتين اللتين تمسكتا به بقوة، وكأنهما قد حازتا على خشف هرب من شبكة صياد نصبها بغباء.
ـ وليَكُن مَعْلُوماً أن الصندوق قد أوصت به الحاجة “لوليتا” أن يُدفن مع المرحوم، قدّس الله سرّه (الذي هو أنا).
ـ تناوله “سماوي الأعرج” بين صمت وذهول المشيعين الذين لم يعتادوا مثل هذا المشهد من قبل. قد يكون من بينهم من تساءل في سرّه عن قصة هذا الصندوق الغريب ووجوده في هذا المكان. ثم: لماذا يُدفن هذا الصندوق مع المرحوم؟ ترى، ما الذي يوجد بداخله؟ لعلّ في الأمر سراً أو أسراراً؟ ثم إن هذا الصندوق كبير الحجم نسبياً، فهو يحتاج إلى قبر أو “جورة” تساوي تقريباً حجم قبر عادي لطفل! ثمة أسئلة راودت أذهان بعضهم ممن تساءلوا وحدّثوا أنفسهم.
ـ صاح معمو الحجي: “بركاتك يا مولانا.. الله أكبر!”
ـ ردّد المشيّعون: “الله أكبر، الله أكبر!”
ـ صرخ بأعلى صوته الشيخ، مندوب مكتب دفن الموتى: “الفاتحة على روح المرحوم الشيخ العلاّمة، المغفور له ولعائلته من آل الفرواتي!” ثم، بسمل الجمع الغفير، قرأوا الفاتحة.
ـ لأول مرة تظهر لفظة غريبة أثناء سير الجنازة، وهي “الشيخ العلاّمة”. يمكن أن تكون سهواً، أو أن شيخنا أطلقها بأسلوب ترويجي دعائي متعمّد لتُضاف إلى ماكينة الأخبار المصنوعة حول مولانا، قدُس الله سرّه، ولتكتمل شروط اللعبة.
ـ وقتئذٍ، كان مولانا، المسجّى في تابوته، عيناه مشدودتين وتبرقان مثل قط بري فاجأه فأر عبر المكان بغرور وتحد، ما أفقده صوابه، وهو ينظر نحو الصندوق الخشبي الذي سلّمه “ساكو” للحفّار.
ـ ابن الحرام “سماوي الأعرج”: ماذا لو أيقظته ذاكرته الملعونة وأعادت إنتاج لحظات من تاريخه حين كان (جثة) وقاطع طريق يسرق القوافل والشاحنات؟ أعتقد، ولا أخمّن، أن الصندوق سيكون الأداة التي سيسُطى عليها الحفار لاحقاً؛ فهي كنزٌ من بعد كنز، وأظنُّ – وهذا ليس سيئاً – أنه ليس بغريب أن يعاود “الأعرج” فعل التشليح والتشبيح والابتزاز الذي يمارسه على ضحاياه بمجرد كشف الأسرار المستورة للكائنات التي كانت خاضعة لأوامر الحاجة “لوليتا”، زوجة المرحوم في السر، والتي كانت تدير النزل! كل ذلك ردده المرحوم في سره، وهو يراقب الحفار “سماوي الأعرج” وهو يمسك بالصندوق ويحتضنه، وعيناه الذئبيتان تظهران الغدر والمكر للخواجة “ساكو” الذي أبدى هدوءاً قلقاً تجاه الحفار، وهو يسلّمه الصندوق.
ـ من باب التذكير: النزلُ علامة فارقة في تاريخ البلد، حافلٌ بالقوادة والتهريب والمطاردات، والمؤامرات والتكتلات العشائرية والسياسية في أوقات الانتخابات وغيرها. إنه مطبخ البلد والسجل الخفي له؛ إنه نزل السرور.
ـ الصندوق، بما فيه، هو سفر من الأسرار يفوق التصور، ومن المؤكد، لحظتها، أن الصندوق يحتوي أيضاً على قرائن تدين حاشية مولانا، قدّس الله سرّه، وقد تُنال منه أيضاً فيما إذا تم الكشف عن المستور.
ـ إذن، هي فرصة لـ “سماوي الأعرج” لكي يهدد بها من يريد ابتزازه أو ابتزازها.
ـ أيضاً، مولانا المرحوم في ورطة الآن، ولا بد من مداراة الأمر.
إذن، لا بد من وسيلة لتفادي هذه الهواجس التي تقلقه، ففكّر في سلاحه القديم المتجدد وقت الحاجة… الكرامات، وهي الجزء المتخيل الذي يصنعه الرواة والحمقى والأنذال وأنصاف المثقفين والقوادون والعاهرات والأغبياء البسطاء من عامة الناس، جميعهم أبواقٌ بتصرف مولانا، قدّس الله سرّه. فمولانا دأب على هذا الحل الناجع؛ لطالما كان رجلاً نورانياً مكشوف الحجاب عنه، ولطالما كان “سماوي الأعرج” ذئباً بثوب ثعلبٍ يُشعره باقتناص الفرصة، ولطالما أن الميت ميت والحيّ أفضل من الميت، فالفرصة سانحة ليتسيد “سماوي
ـ قال مولانا في سره: “ابن الحرام!!” المتشرد، سماوي ابن القاع، يحلم أن يحل مكان مولانا إذا ما واتته فرصة القنص بالسطو على صندوق الأسرار، يرهب به شياطين مولانا الذين صنعوا مجده وجعلوا منه هالة غرائبية!!
ـ كل هذا دخل في حساب مولانا، واقتنع بأن الإنسان لا يُلدغ من جحر أفعى مرتين! ألا يكفيه ما فعلت به “لوليتا”، زوجته السرية؟! كيف تمكنت منه، وجردته من كل أسلحته، فأصبح تابعاً مأموراً، وهو يرى بأم عينه كيف كانت تقود إلى غرفة نومهما مسؤول العاصمة، صاحب الأمر والنهي في البلد، كلما حضر… وحتى القس “قرياقس”، رجل الكنيسة، عفة الطهارة، تدخله نظيفاً وتخرجه مبللاً من شدة الخمرة التي تطيح به… حتى أن بعض أغوات البلد والجزيرة أصبح لهن مرجع دنيوي؛ فهم يدفعون لهن بسخاء، وخاصة حينما يحظى أحدهم بمجالسة “لوليتا” أو معاشرتها… حتى أن إحدى أغوات شرق الجزيرة باع لها كل ما يملك من سندات تمليك قرى وأراضٍ باكملها، وحين أفلس بكى عند قدميها، يلثمهما… إنها المرأة القوية!!
ـ فسرعان ما حمله اثنان من مرافقيها بأمر منها، ورموه عند مكب الزبالة قرب النهر. مرّت أيامٌ حتى وجدوا جثته متفسخة ومشوّهة، تنبعث منها رائحة كريهة، وحولها انتشرت الجرذان وكلاب ابن آوى تنهش بقاياه بمتعة، كأنها العشاء الأخير لها…
ـ ردد مولانا: “لا يُلدغ الإنسان من جحر أفعى مرتين.”
ـ قال مولانا، وأنا شاهدة ذلك، وضحكت…
ـ ردد في سره: “لماذا لا أجرب كرامةً من كراماتي، وهي الأولى بعد موتي، لأتأكد من صلاحيتها وفاعليتها؟!”
ـ فعلاً، قرر تفعيلها، وبالفعل فعّلها؛ فاستجابت له إحدى الكرامات بأن أغشت أعين المشيعين عنه، فخلع الكفن، وتسلل من تابوته مثل تعلبٍ، عجزت كلاب صياد فاشل عن اللحاق به، واكتفت بالنباح والنواح وضرب أرجلها الخلفية على الأرض، ومدّ ألسنتها وسيلان لعابها.
ـ اختفى مولانا عن الأعين متجهًا إلى الصندوق، ودخله بلمح البصر.
ـ ما جرى داخل الصندوق من أمور غرائبية يشيب لها الرأس.
ـ ما أن دخل مولانا الصندوق حتى استقبله لفيف من حاشيته في زفة من الفرح والغناء والطبل والزمر، والشكر لله على وصول مولانا سالماً. وفي مقدمة استقبالهم كانت الحاجة “لوليتا”، وقد ظهرت في أبهى حلة، ومن حولها بناتها الغانيات بارزات الصدور، ممتلئات الأفخاذ، والمؤخرات اللواتي يرقصن ويهللن للغائب العائد، قدّس الله سرّه. كما كان في استقباله فضيلة الخوجة “أبو رحمو الأعور”، شيخ الجامع الكبير، والمؤذن والمسؤول المؤتمن على أوقافه، وهباته ومدرسته (الكتّاب) لتعليم تلاوة القرآن وحفظه، إضافة إلى أشياء أخرى.
يتبع في الحلقة القادمة
مؤلف وناقد ومخرج مسرحي