إناسة

الرَّقة.. إشراقةٌ مضيئة

عبد الكريم البليخ

مع إشراقات الصباح الأولى، نسير مع الضوء نحو البعيد، حيث تقبع الرّقة، تلك المدينة التي لا تزال في الذاكرة نهراً من حنين، بطيبة أهلها وبساطتهم، وبفراتها العذب الذي يسكن في قلوبنا، ماضٍ يتراءى أمامنا كلما داعبت أنفاسُ الصباحِ وجوهَ الغائبين. إنها ليست مجرد مدينة، بل لوحة نقشها الزمن بريشة فنان أصيل، بريشة الشمس حين تشرق على مآذنها، وريشة الماء وهو يعانق ضفافها، وريشة الأزقة التي حفظت وقع خطوات العابرين، وهي اليوم تهمس بما كان، وترثي ما صار.

الرّقة ذاكرة محفورة في الصدور قبل أن تُنقش على الجدران، أيامها الخوالي كانت صفحات من الدفء والفرح، تتراقص في أعين أطفالها، وفي ضحكات أهلها، وفي تفاصيل مقاهيها وسوقها القديم. أيامها كانت نشيداً يصدح في فضاء الحرية، وألواناً تختلط بشغف الحياة. غير أن الزمن، بقسوته التي لا تعرف الرحمة، قلب صفحاتها البيضاء إلى سواد، وجعل من تاريخها كتاباً ممزق الأوراق، فباتت الجدران التي كانت تحمل الحكايات شواهد على الألم، وتحولت الطرقات التي كانت تنبض بالناس إلى ممرات للموت والغياب.

لا يزال في القلب متسع من وجع، حين نتأمل كيف انقلبت ملامحها، كيف تبددت الأحلام بين أنقاض البيوت المهدّمة، وبين صرخات النزوح التي جرّدت أهلها من هويتهم، فصاروا غرباء في أوطان أخرى، يحاولون أن يلملموا ما بقي من أرواحهم وسط عوالم لم تفتح لهم أبوابها إلّا بأثمان باهظة، أثمان دفعتهم إلى التيه في الغربة، بين حنينٍ ينهش القلب، ومستقبل مجهول لا يكاد يمنحهم سوى سراب الأمل.

ومع كل هذا الخراب، ثمة ضوء خافت يلوح في الأفق، شيء يشبه بقايا الحلم، يشبه مدينة تنتفض من تحت الركام، كطائرٍ جريح يحاول فرد جناحيه من جديد. لا تزال الرّقة رغم كل شيء، رغم كل الحروب والجراح، تنبض في ذاكرة محبيها، ترفض أن تكون مجرد ذكرى مطموسة، تأبى أن تظلَّ مجرد أطلال يزورها الحنين، أو خريطةً باهتة فقدت معالمها.

إننا، وسط هذا العالم الذي يضجّ بالألم، بين وجع المنافي وذكريات المدن التي سقطت تحت ثقل التاريخ، نحاول أن نمسك ببصيص من الشوق الذي يتحفنا بيوم جديد، يوم يحمل لنا وجوهًا نعرفها، وشوارع لم تفقد دفئها، وجسوراً لم تُهدم بين القلوب. إننا نبحث عن أنموذج متقاطع بين الحنين والحياة، بين الذاكرة والمستقبل، بين ما كان وما يجب أن يكون.

ربما تأخذنا الأيام بعيداً، ربما تباعدت المسافات، لكن الرّقة ستبقى هناك، تحت جلد الحنين، تلوّح لنا بصمتها النابض، تقول لنا إنها لا تموت، وإنها، ككل الأشياء العظيمة، تعرف كيف تعود إلى الحياة.

3/3/2025

المسجد الجامع بالرقة

حارة العجيلي

مركز المدينة/حديقة الرشيد

الجسر الجديد

من شوارع الرقة

الجبنة/ من المواد الرئيسة التي تشتهر بها الرقة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى