باليت المزمار

الجمال الذي تجاوزَ اختبار الزمن

ستار كاووش

أهم ما في الفن العظيم هو مقدار الأسئلة التي يطرحها، وكذلك الطاقة التي يحملها والسحر الغامض الذي يتركه في نفس المشاهد، ما يجعله يعيش لحظات خاصة. إنه ببساطة يفاجئك بشيء جديد لم تتعود على رؤيته. وهذا ينطبق على التماثيل العملاقة لجزيرة إيستر، التي تنتصب مثل غابة من النباتات السحرية المهولة أو ككائنات عملاقة جاءت من زمن موغل في القدم. السحر هو الكلمة المناسبة هنا، والغرابة هي التي تقول كلمتها أمام هذه الأعمال الفريدة التي منحت الجزيرة طابعاً استثنائياً وحولتها إلى متحف مفتوح تحت الشمس، تتقاذفه أمواج المحيط الهادئ.

لا تعرف ما الشعور الذي يداهمك وأنت تنظر إلى هذه التماثيل، فهناك رهبة ممزوجة بالفضول والترقب والكثير من الأسئلة. هل هي أعمال فنية أم أشكال سحرية؟ هل هي تعاويذ عملاقة أم تماثيل لملوك غابرين عاشوا هنا؟ ما الذي يقف وراءها؟ وهل صُنعت لتواجه تقلبات الطبيعة وغضب البحر، أم كان الغرض من وجودها هو تزيين الجزيرة؟ وفوق كل هذا، كيف تم صنعها في تلك الفترات البعيدة؟ كيف رفعوا الأحجار العملاقة وشذّبوها بهذه الطريقة التي تحمل الكثير من الإبداع والتعبير والقوة، والحكمة أيضاً! وهذه الأعداد الغفيرة التي وصل عددها إلى ستمائة منحوتة عملاقة، كيف وجدوا الوقت الكافي لإنجازها وتوزيعها في الجزيرة بطريقة مدهشة، وكأنها معرض عظيم للنحت؟ هكذا تبقى دروس الجمال وفتنة الفن ومهابة التاريخ حاضرة أمامنا ونحن نتطلع إلى تماثيل جزيرة إيستر العظيمة.

فمن أين جاءت هذه المنحوتات؟ وكم مضى على وقوفها هنا وكأنها تتحدى تأثيرات الطبيعة وتوارد الناس وتقادم السنين؟ وفوق كل هذا، ما الغرض الحقيقي منها؟

كانت جزيرة إيستر قبل آلاف السنين مليئة بالبراكين، وما زالت آثار فوهاتها المطمورة تتوزع في كل مكان. وبسبب تلك البراكين، امتلأت الجزيرة بأحجار التوفا والسج الداكنة التي تكونت جراء الحمم، وتجمعت بهيئة طبقات شغلت مساحات كبيرة من هذه الجزيرة، التي يعني اسمها “إيستر” عيد الفصح، وهو الاسم الذي أطلقه عليها البحار الهولندي ياكوب روجيفين، الذي كان أول شخص أوروبي يصل إليها عام 1722، وقد صادف يومها عيد الفصح، لذا سماها بهذا الاسم. وقد فوجئ وقتها بناس ذوي أشكال غريبة يعيشون في الجزيرة، يصلّون للشمس ويعبدون نوعاً من التماثيل الضخمة. بعد ذلك، تناوب الأوروبيون في رحلاتهم إلى هذه الجزيرة، التي تباين عدد سكانها بين الزيادة والانخفاض على مرِّ القرون، وذلك بسبب ظروف الجزيرة والحروب الداخلية التي كانت تحدث بين الأهالي. وفي النهاية، أصبحت تابعة لتشيلي. وقد انسجم ما تبقى من السكان مع الثقافة التشيلية، لكنهم ما زالوا يستعيدون شيئاً من تراثهم عن طريق بعض الأعياد والاحتفالات والوشم والمسابقات وصناعة القوارب التي تعيدهم إلى ثقافة أجدادهم.

أُنجزت تماثيل الجزيرة في مراحل مختلفة، وكانت بدايتها في القرن الثامن الميلادي بتماثيل صغيرة الأحجام، وبعد مرور السنوات تغيرت أشكالها وأحجامها وصارت رؤوسها أكثر استدارة، واختلفت حتى تكويناتها. ومع مرور الوقت، صارت أبعاد التماثيل عملاقة، حيث وصل ارتفاعها إلى أكثر من عشرين متراً، ويُعتقد بأنها تشير إلى شخصيات مهمة بمثابة الآلهة، لأن الكثير منها كان يُرَتَّب بهيئة صفوف على الشاطئ، حيث تكون ظهورها مواجهة للبحر، فيما وجوهها تتجه إلى الداخل، كأنها تُسيّج الجزيرة وتحميها من أي مخاطر محتملة. وقد عُثر قرب فوهات البراكين القديمة على الكثير من الأدوات ومعاول قطع الحجر التي كانت تُستعمل في إنجاز هذه التماثيل الضخمة، وكان بعضها يحتوي على تجاويف تحت الجبهة بمثابة عيون يثبتون فيها قطعاً من المرجان الأبيض، الذي يُرصّع وسطه بقرص من الحجر الأسود كأحداق للعيون. كذلك، كانت تُثبَّت فوق رؤوس بعضها ما يشبه القبعات، التي نُحتت من حجر أحمر كانوا يجلبونه من أماكن خاصة في الجزيرة.

لقد بَدَت هذه التماثيل عند اكتشافها بهيئة رؤوس ضخمة تربض بهيبة وقوة على أرض الجزيرة، لكن بعد فترة تم حفر وإزالة التراب المحاذي لها، ليكتشفوا أجسادها العملاقة المطمورة تحت الأرض. واتضح أنها قد أُنجزت لتكون واقفة بهذه الارتفاعات الشاهقة، لكن غطاها التراب بمرور الزمن. والسؤال الذي يتبادر إلى ذهن الكثيرين هو: كيف تم رفع هذه التماثيل الضخمة وجعلها منتصبة في ذلك الوقت الذي كان يخلو من الماكينات وآلات الرفع؟ وللإجابة على ذلك، أُقيمت بعض التجارب حول هذا الأمر، كان آخرها في ثمانينيات القرن العشرين، حيث استطاع خمسة عشر رجلاً من رجال الجزيرة سحب أحد التماثيل الكبيرة وإمالته بواسطة الحبال فقط، بمساعدة جذعين من أشجار الجزيرة، وقد تم رفع التمثال شيئاً فشيئاً مع وضع بعض الأحجار تحته تباعاً، حتى تمكنوا من جعله منتصباً.

هكذا بقيت هذه التماثيل منتصبة بعد أن تجاوزت اختبار الزمن، تنهض بشكلها الكهنوتي وقوة حضورها ووجوهها الحادة وخطوطها المحفورة بعناية فائقة، مع اختزال في ملامحها، وفوق كل هذا، تلك الهيبة العظيمة التي تنعكس منها، والسحر الذي تبثه نحو من ينظر إليها. يا لهذه التماثيل المَهيبة، التي رغم صمتها، قالت الكثير عن أسرار الناس والزمن والحضارات المتعاقبة، والأهم من كل ذلك هو الجمال الحي الذي تركه إنسان هذه الجزيرة خلفه، ليعيش مئات السنين.

ناقد وفنان تشكيلي عراقي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى