محمد بنيس العِقد العربي النفيس

الأديب الرياضي في بلاط صاحبة الجلالة
سرّ الكلمة.. وكلمة السرّ
إبراهيم وسوف

الحديث عن كتّاب “الصقر” وأعلامها روّاد الفكر الثقافي الرياضي العربي حديثٌ ذو شجون وهو سلاحٌ ذو حدّين فمن ناحيةٍ قد لا تليق الكلمات بقامة من نكتبُ عنه ثمّ من الصعب أن نُلمّ بجوانب عبقرية هذا الكاتب أو ذاك لكنّ الواجب يحتّمُ علينا أن نستحضرَ وهج بريق رؤوس أقلامهم، ونسلّط أمواج الشمس على بعض شذرات شَهدهم وأن نذكرهم ونستفيضَ في إبراز مناقبهم وأعمالهم الجليلة التي كانت لنا وللأجيال العربية منارةً نتطلّعُ إليها ونقتدي بها ونصبو لأن نصعد درجةً واحدةٍ في سلّم ألقها ونخطو خطوةً في طريق ردّ دينٍ يطوّقُ أعناقنا.
محمد بنيس قارورةٌ من عطرِ ورود جبال الأطلس ورحيقِ الأدب وشجن الكلمات بلمساتٍ إبداعيةٍ عبقة أَثَرُ كلماته يبقى عالقاً في الروح والوجدان بعد أن يرحلَ ويمضي كلّ شيء.
لم يمارس محمد بنيس فنّ الكتابة فقط لكنه مارسها بغوايةٍ وشغف … وكشف كلّ أسرار موهبته وصناعته فاكتشفَ سرّ الكلمة، وكان كلمة السرّ في عالم الصحافة الرياضية التي لم تُفكّ طلاسمها حتى الآن… لقد أمسكَ باللغة ونجومها كما يُمسكُ أوراقه وأقلامه أمسكَ باللغة وطوّع الكلمات والحروف وحوّلها فيضاً نثريّاً سحرياً فريداً بالغ الرقي والعذوبة.
محمد بنيس المغرّد خارج السرب، المتفرّد المتلاعب ببراعم الحروف والكلمات التي لا تتكرر العازف على أوتار الروح المبحر مع الفجر نحو أعماق السحر بمجاذيفَ من محبةٍ ومن وفاءٍ وودّ .
بنيس في برج المانع
عن الصقر ودخوله بناية برج المانع كتب في العدد 263: “عندما جئتُ الدوحة في 4 أكتوبر من سنة 1982 قالوا لي في قسم التجنيد بالقوات المسلحة القطرية أنه أول جواز مغربي يمر من هنا، وقال الزميل رئيس التحرير في عموده “بسم الله الرحمن الرحيم” أنني أول صحفي يعمل في الخليج …..
وفي الصقر يسعدني شيء واحد أكثر من غيره.. أنها تحافظ على فرسانها .. تعتزّ وتكرّم الكلمة المتألقة والأسماء القوية .. مثل أي فريق يحافظ على نجومه .. ليحافظ على تفوقه وعلى جمهوره وعندما كنتُ صغيراً من قراء مجلة “صباح الخير” كنت أغضب جداً وأضرب المجلة مع المكتب عندما لا أجد كتابة “لمنير عامر” .. وأعتقد أنَّ كثيراًض من قراء الصقر سيقومون بنفس السلوك عندما تغيب الخواطر، أو تتغيب كتابات عادل شريف وفيصل شيخ الأرض وباقي أسماء الصقر الكبيرة.
ترى كم عمري في ” الصقر” .. لعلّ الوحيد الذي يعرف الإجابة جيداً هو الزميل الأخ سلمي أبو جزر .. لأنه عايش احتراقي .. معاناتي .. بسمتي .. وعبراتي وهو قارئ الصقر الأول .. والوحيد الذي أستشيره قبل تسليم المادة لرئيس التحرير .. هو مثقف وقارئ رائع .. وآراؤه غالباً صائبة .. وهو يستحق مني هذه الشهادة مع شهادة أخرى أنه بخيل جداً في كتاباته لا لشيء .. إلّا لأنه ينتمي لعقارب الساعة الصغيرة !!!”.
وجهاً لوجه
في صفحتَي وجهاً لوجه بالعدد 102 الصادر بتاريخ 16 نوفمبر 1982 حاور الأستاذ محمد بنيس الأديب والناقد العربي الكبير رجاء النقاش و رئيس الاتحاد القطري لكرة القدم الأستاذ سلطان السويدي، حيث كتب عن الراحل رجاء النقاش : “رجاء النقاش المثقف العربي والناقد الأدبي البارز يتحدث عن الرياضة .. هل تصدقون؟
هو زملكاوي (الابن)، وأهلاوي (التاريخ) !!
يتعاطف مع الملاكمة ك “قضية” وأحب كأس العالم ك (باليه) .. بقصته مع الرياضة تبتدىء من بلهارسيا الريف المصري كممارسة .. وفي النموذج الأثنين الاسبرطي كحضارة، ومن أرنست همنغواي والبير كامو ونجيب محفوظ كاهتمام؟
النقش مع النقّاش احتفظ بنكهته وهويته وابداعه حتى لو حولنا هذا (النقاش) إجبارياً للرياضة!
وعن الأستاذ سلطان السويدي كتب:
سلطان السويدي (مسروق) من الرياضة مع سبق الاصرار! أبعدناه عن هموم الكرة.. فكانت النتيجة … هموم عربية.. سياسية .. عرقية! تحدث عن السينما والكتاب والمرأة والزمن العربي، وقام بتشريح واقع عربي كئيب، وانتقل من ضربة الجزاء إلى قولة أفلاطون ومن شغب الملاعب إلى يوسف شاهين.. كلماته عن الدين والديكتاتورية والتدخين والإخفاق تبصم بعمق في أية ذاكرة ..”.
منتخب العرب
في العدد (200) كتب الأستاذ بنيس تحت عنوان مع الصقر في رفرفتها الـ٢٠٠ : “الصقر سكنتني كقارئ .. وسكنتني كمراسل ومندوب .. ثم جمعت كلّ ذواتها أخيراً لتفرش لي شرعيتها المطلقة لتحوّلني إلى مسكون مطلق جداً .. جداً؟
تحركتُ وتنفّستُ وولدتُ بذوات أخريات على صفحاتها.. أبحرتُ تحليقاً على أجنحتها… وترجمتْ هي مع الاحتفاظ بحقوق التأليف .. معاناتي!!
وتابعَ:
في الدوحة .. وفي ديسمبرها الدافئ ١٩٨٢ تجمّع منتخب العرب لأول مرة في تاريخ الكرة العربية .. وتجمّع في الدوحة نجوم وعمالقة يستحيل أن يكونوا قد تجمعوا ولن يتجمعوا أبداً وبنفس القدسية في مكان آخر… كان هناك الخطيب الأسطورة، وبللومي التحفة، ودرجال المغنطيس، والنعيمة الشموخ. كان هناك العيسوي الزئبق، وكيفورك الساحر، وكان العنبري محاور الإبداع والنقر الفيروز، وكان الجبالي الجبل وحمامة البلور، وابراهيم الفنان، وسلطان السلطان، وكان فرسان الدوحة الخمسة القائد عنبر، والثعلب منصور، والغزال دهام، والعنكب الخواجة، والقاضي موزّع الذهب.. جميع هذه اللآلئ تبحر على سفينة ربانها الحاج وملاحها العيد .. وأشرعتها تحمل راية اتحاد قطر وأعلاماً عربية فتانة.
وفي فندق رامادا حيث كانوا .. كانت الصقر .. وفوجئتُ أنّ كلّ هؤلاء وإن كان إحساسي سوبر طبيعياً .. فوجئتُ أنهم أتوا للصقر .. في ضيافة الصقر .. كان التجمع في أسمى معانيه يلهبهم .. ولكن الصقر كانت لا تشكل الحلم العربي وإنما تفجر فيهم الملكية الخاصة .. تفجر فيهم تملكاً خاصاً لقارئ الوطن .. قارئ يلغي الحدود وينسى الجغرافيا ويلفظ الحساسيات .. قارئ غير سياسي .. قارئ صقري .. يحبّ بلا حدود”.
الدوري القطري ونجومه
وفي وصفه لأحداث الدوري القطري كدليلٍ بأنّهُ صاحب مدرسةٍ خاصّة في الكتابة تجمع السهل الممتنع في جديلةٍ واحدة إضافةً لتفرّده وخروجه المحبب عن المألوف، وكان ينسجُ كلماته بحروفٍ من متعة، حيث كتب في مقدمة مقالته بالعدد 249 الصادر بتاريخ 12 نوفمبر 1985: “فجأة يتحوّل أستاد حمد الكبير إلى مشانق تكتيكية.. لم يتغيب فيه أرجوان المتعة ..ولا قزاحيات الأهداف المسروقة .. ولا الانتحار الهجومي ..
هذا العرس في يوم الدوري الرابع زفّ فيه الريان فائزاً .. وكاد العربي أن يتعادل وضاع رزق مرزوق!! لكن تغيّب فيه منصور ويونس أحمد .. وسجن علي زيد وتقدم أحمد الماجد خطوة خاطئة!!
هذا الفوز الممزوج بالأسود والأحمر وضع كرسي الزعامة مخنوقاً في عنق الزجاجة .. أصبح ثلاثة فرسان يستلون سيفاً واحداً… العربي _ الريان والتعاون … والدوري أيضاً يستيقظ على مصيبة تسلل أدّت إلى خسارة التعاون بـ 6/ صفر .. تصوروا؟
ويستيقظ أيضاً الأهلي كعملاق ارتاح قليلاً في البداية ليقيم حفلاً من الأهداف والمتعة ..
هكذا إذن .. فما يزال باب السد مسدوداً .. ضيّع الفرحة بعد التتويج بكأس المغفور له الشيخ قاسم . وقد يستردها بعد مجيء تطور قادم .. وما زال قطر لم يفقد بريقه وإن خيمت بعض السحب السوداء في الأسبوعين الثاني والثالث فوق رصيد ثقة ابداع البداية .. وما يزال الوكرة يسترد ثقته وتألقه شيئاً فشيئاً .. ويوم بعد يوم .. وما يزال الاتحاد يخطو للوراء .. يتراجع من دون مبرر… وبشكل يدعو للدهشة!! “
وفي مقدمة أخرى لمقالة بالعدد 256 كتب عن أبرز نجوم الدوري القطري: “قبل أن يلفظ الدوري القطري أنفاسه .. بصراع مراكزه الملتهب .. بأرقامه المخنوقة .. بنتائجه الملغومة..
قبل أن يهدي الدوري درعه .. وذهبه .. وقبل أن يغرق بطله في بحر من ورد وعطر وأريج ..
قبل .. وقبل ..
وحتى لايفلت الوشم من ذاكرته .. وتتلف أمواج “الخليج” بصماته … سنحاول أن نرش شريطه بالسكر .. سننقّب عن الذين صنعوا حلاوته … وسنتذكر اللاعبين الذين سطعوا نجوماً ازدانت سواراً في سمائه …”.
بين الغياب والإشراقة
في لهيب آب 1986 احتجبتِ الصقر وكان لهذا الاحتجاب أثره النفسي على الجميع، ففي عدد الوداع الذي حمل الرقم 286 كتب الأستاذ بنيس: “وفتحَ رئيس التحرير باب مكتبه لتلقي “التعازي”!!!
والصقر عندما تتوقف تستحق “التعزية” تستحق “جنازة ” و “نعش”، و”قبر” ودموع ومقرئين!!!
كنتُ أتمنى أن أكتب هذا الوداع .. مني .. من أنفاسي .. ولكن استعصت كل النبضات ورفضتُ أن أكتب الوداع لأنني لم أستطع .. لذلك سيلمس القارئ ضياعاً بين الحروف والفواصل .. لكنه بكل تأكيد سيجد نزيفاً مغموساً في صدق ..
عشتُ في الدوحة مكرماً معزّزاً بين أهل ورجال لن ينمحوا من الذاكرة أبداً .. ولن أشكرهم .. بل أعتبر ذلك ديناً أرجو أن يوفقني الله في ردّه قدر مستطاعي” .
وعن إشراقة الشمس من جديد عام 2000 كتب في أبيض وأسود في العدد 500:
“وداعاً .. آخر غلاف عام 86 .. نزفت .. ولم تعد وجنتاي تتعرف على دموعي .. حدثني نبضي بلا وجه ولا دق .. كانت دقات قلبي قد اختلطت مع رشات الحمم داخلي .. لم أكن أعرف أن تكملة وداعاً كل هذه السطوة .. وتتمتع بكل مساحات الألم هذه.
وبين 86 و 2000 كنت في ضيافة العديد من الدول العربية .. كنت المدير العام لصحيفة المنتخب المغربية فقدمني التلفزيون العماني والسعودي بصفتي مديراً لتحرير مجلة الصقر القطرية سابقاً…كنتُ سعيداً وكنتُ أبكي.. استكتبوني في عدة صحف خليجية وأجريت معها عدّة حوارات عن هموم المهنة وآفاقها.. كانوا يغتالونني اغتيالاً لذيذاً عندما يمررون الكلمات كالسكاكين .. مدير تحرير مجلة الصقر القطرية سابقاً … وكنت أستشهد في كل مرّة .. ولو ظلت الصقر مختفية حقباً أخرى لبقي ذكرها على الألسن، ولبصمت هويتها من الذاكرة.
.. كتبتُ مرة لرئيس التحرير..
أما آن الأوان أن توقفوا نزيف القارئ العربي .. أما حان الوقت لتوقفوا العمليات الفدائية في دواخلنا يومياً.
في كل مرة أكتب رسالة لرئيس التحرير “السابق” وفي كلّ مرة لا أستطيع تكملة كلماتها .. وفي كلّ مرة أمزّق الرسالة كما تتمزق أحشائي بمفرداتها.
.. في المغرب وصلتني أخبار بقرب عودة الصقر .. لم أصدق .. فالرقم وصل 14 سنة “عذاب ” .. هل سيتم الإفراج ؟
.. آلو .. لك مكالمة من قطر .. آلو .. من .. سعد الرميحي .. كنتُ أصيح .. تحولتُ إلى شريطٍ من نور ودخلتُ ثقب الهاتف .. قال .. ستعود الصقر .
.. في ظرف 24 ساعة كنتُ في الدوحة .. لا بدّ أن أحضر بنفسي هذا الانبعاث .. كل الصقّارين كانوا محترفين حتى النخاع .. وعانقتُ الأسرة .. فايزعبد الهادي .. ظافر الغربي .. مجدي زهران .. مبارك عمر سعيد وسألتُ أين الباقي .. وعرفت أنّ لكلٍ ظروفهُ .. وأية ظروف هذه بعد 14 سنة .. مجدي تركته عازباً هو الآن أب لعروستين جميلتين وله محمد ولي العهد، وتبادلنا النظرات والكل لاحظ تغير ملامحنا وشكلنا فإما صلعتنا أو شعرنا الأبيض .. سرق الزمن منا الكثير لكنه بالمقابل زادنا نضجاً وخبرةً وصلابة”.
محمد بنيس والعدد 500
وفي العدد 500 كتب: “يولد الصقر، ومن أعماق الزمن يسافر … يعود .. ويبعث حيّاً.
أمر لم يحدث لأية مطبوعة عربية ولا دولية .. غاب الصقر مع الحمم التي تصلّبت .. خاصم الدهر 14 عاماً … وعاد مأخوذاً بنشوة الخلود .. لم يكن جناحاه تائهين .. لم تكن أشرعته وسط العاصفة .. لم تكن دموعه ممنوعة .. لم يكن حجره عقيماً .. لا يتفجّر عيوناً وأنهاراً وبحاراً .. لم تكن كأس محبته خصماً أبداً .. لم يكن بلا ملامح ولا أطياف .. لم يكن بلا ظل .. لم يعتقله الزمن… كان محروساً بضوء إيمان .. كان صمته يفتح أبواباً للسرد والحكايات .. احتفظ بظله .. وهويته ..وعندما توّه الزمان قطاره .. نسي السكة وعرّج على الضيعات.
كان رماد ” الصقر” يزيد ذعره… نفضه .. وانبعث من رحم المقاتلين… عاد في مايو 2000 ليبصم على ولادة أخرى في ألفية أخرى .. لأجيال أخرى”.
زيدان ابن أقمون
وسرقَ إبداع النجم العربي الفرنسي الكبير زين الدين زيدان مع أفول الألفية الثانية وشروق الألفية الثالثة إعجاب الجميع في كوكب كرة القدم فخصصتِ “الصقر” عدداً خاصاً بالنجم الكبير من مئتي صفحة وحملَ عنوان “زيدان من الألف إلى يزيد”، والرقم 595 وصدر في تاريخ 12 سبتمبر 2006 كتب الأستاذ محمد بنيس عن زيدان في مقدمة العدد: “رحل زين الدين زيدان
أيّ أطياف ستظل في الذاكرة هذا “اليزيد ” ابن اسماعيل المهاجر الجزائري سائق الشاحنة.. ثم بعد باريس يتحوّل إلى حارس ليلي يحيط بالمكان وهو يمتطي جواداً.
هذا القبايلي ابن القرية الصغيرة أقمون في ولاية بجايا .. يقطع البحر المتوسط .. ويلبس القميص والجنسية ثمّ يعبق بالعطر الفرنسي وأناقة وثقافة باريس عاصمة النور.
يكبر زيدان الجزائري بتعليم وتدريب وتلقين فرنسي .. لكن موهبته التي ولدت معه في أقمون هي التي قدمته للناس .. وهي التي سحرت العالم .. فأصبح واحداً من أفضل ثلاثة لاعبين في التاريخ .
آخر.. اللحظات .. إنه بصم على ضربة جزاء ساحرة في مرمى بوفون في لقاء النهائي الألماني أمام إيطاليا.
وآخر اللحظات التي ودّع بها الملاعب كانت ضربة رأس في صدر المدافع الإيطالي ماتيرازي وخروجاً بالطرد قبل الوقت النهائي بعشر دقائق.
كان خروجاً حزيناً… لكنه لم يكن سوى لحظة تقلب العواصف في مسيرة لاعب عظيم .. فذاكرة زيدان في وجدان كل العالم .. مليئة بالسحر والجمال والحضور الكبير .. والإبداع والقزاحيات والنيازك المضيئة بألوان الطيف.
من أجل زيدان المبدع.. العربي .. الجزائري .. من أجل زيدان الذي انتصر لكل المهاجرين المقهورين في العالم… من أجل زيدان الإنسان .. كانت هذه الوقفة… مع مسيرته… حياته… أفراحه… ودموعه… مع مواقفه الإنسانية…. ومع السحر الذي رسّخه في مفكرة كرة القدم العالمية”.
في بهاولبور
الأستاذ محمد بنيس تاريخً حافلٌ بالتألق حمل قلماً جريئاً واضحاً عذباً ساحراً لكنه كان مغموساً بمدادٍ من الصدق والحبّ، و كتب آلاف المقالات والتقى بآلاف النجوم والمشاهير من صناديد الرياضة ونجوم كرة القدم في الوطن العربي وفي العالم، وما تزال الذاكرة تستنشق عبقَ كلماته عن العديد ممن التقاهم، أو كتبَ عنهم، ولا أنسى كلماته عن النجم الكروي عبد القادر كردغلي في لقاء الأسبوع بعد توهجه مع المنتخب السوري في كأس الأمم الآسيوية الثامنة التي أقيمت في سنغافورة ديسمبر 1984 و اللقاء مع أوناسيس الكرة المصرية النجم فاروق جعفر، ومقالته عن النجم أرمسترونغ بطل العالم وبطل طواف فرنسا التاريخي الذي تحدى السرطان وعاد أقوى مما كان، وبين هذا وذاك مئات بل آلاف التحقيقات والاستطلاعات وبراكين المشاعر الفياضة التي كان يصورها بقلمه وأفكاره وينقلها بسحر وجمال خياليين إلى الورق وإلى قلوب القراء، وتبقى مغامرته مع فريق المقناص القطري إلى الباكستان مع أستاذ الأجيال الأستاذ سعد الرميحي والأستاذ المصور مصطفى بدري ربيع عام 1986 في البال تلك الرحلة التي عشناها معهم بكلّ تفاصيلها من خلال قلمه وبوح مشاعره وأحاسيسه قبل مغادرتهم مطار الدوحة حتى وصولهم إلى بهاولبور في الباكستان، وفي خاتمة كلماته تلك كتب الأستاذ محمد بنيس: “عندما تمت الموافقة على عودتي ورئيس التحرير إلى الدوحة أحسستُ بفرحة لم أفرحها قط في حياتي وكأنني أصبحت مليونيراً فجأة أصبحت العودة للزمن الحضاري تساوي حرية غالية. وعندما عدت إلى الدوحة أحسستُ أنني ولدت من جديد.
لكنني لن أسلخ من ذاكرتي هذه التجربة .. إذا كان في السفر سبع فوائد ففي “المقناص” مليار فائدة، ومن شكك في الأمر فليجرب ذلك مرّة واحدة فقط ؟ “.
أمنيات بالشفاء العاجل لأستاذنا الكبير
ومنذ عدّة أعوام أجرى الأستاذ محمد بنيس عمليةً جراحيةً في الظهر اضطر بعدها أن يلتزم بالكرسي المتحرّك لسنواتٍ عدّة ولكنه بقيَ محاطاً خلال تلك الفترة بعناية ورعاية واهتمام أسرته التي غمرته بالحب والحنان والأمان وبقيت إلى جانبه وأعانته على تخطي الظروف الحالكة التي مرّ بها خلال فترة مرضه، وقد بدأ والحمد لله بالعودة إلى حياته الطبيعية منذ عام 2022 وقد تواصل معنا عبر الفضاء الأزرق منذ عام 2018 وكان في أوج أوجاعه وآلامه ولم يبخل علينا خلالها بأشواقه التي كانت مضاعفة. كتبَ وشكر الجميع وكلّ من سأل عن صحته، وكان حريصاً على الردّ والتواصل مع جميع أصدقائه ومحبيه وبقيتْ كلماته وأشواقه ونظراتُ عينيه وبوحُ نبضه تنثر عطرها الآسر من محيط الرباط حتى حدود بحر العرب آملين أن يتماثل أستاذنا المبدع للشفاء سريعاً ليعودَ إلى أحبّائه وقرّائه وعشّاق يراعه، وليعودَ النسغُ إلى الربيع، وليعودَ الربيعُ إلى الحياة ولتعودَ الحياة إلى أطياف قوس قزح.
الأستاذ محمد بنيس هو المبدع الذي ننتظره أن ينطلق من جديد لأن المبدع لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، ولا يخرج من تجربة إلا ليدخل في غيرها هو السندباد في انطلاقاته التي تصل حدود العالم وحتى قد يكون في صمته أبلغ من كلامه وقد يكون في غيابه أكثر حضوراً لأن زمن الكتابة قد يمضي ولكن القراءةَ باقيةٌ ومتجددة باستمرار، وبهذا تتجدد الكتابة بالقراءة والكلمة الطيبة الصادقة لا بدّ ستجد قارئها ولا يهمّ أبداً أن يتمّ اللقاء بعد ساعةٍ، أو بعد يومٍ، أو بعد سنةٍ، أو حتى قرن.
في مساحة ملعبه أبيض وأسود العدد 493 تاريخ 27 يوليو 2004 كتبَ:
… تلك الغربة ذات الأريج …
… وذلك الطفل بداخلى جريح …
… وفي حنجرتي صوت ريح ….
… وفي نافورة وجداني نزيف ….
إنها الغربة … كالتربة ….
تقبل الشاي أو لا تقبله …
والأجنحة في الغربة … إما …
بها تطير أو تنكسر.
طرطوس