المرأة في المجموعة القصصية.. (عزف بأنامل عاشقة)

جاسم الكشّة

“عزف بأنامل عاشقة” قصص للكاتب عمر الحمود، أصدرتها الهيئة العامة السورية للكتاب بدمشق 2024، وضمت 13 قصة، توزّعت على 144 صفحة من القطع الوسطى.
نجد عنوان المجموعة يتسم بالشاعرية، ويتكوّن من ثلاث كلمات متجانسة مترابطة، ومن جهةٍ أخرى ترتبط بمضامين قصص المجموعة بخيطٍ شفيف، وشكّلت إيقاعاً يُغوي القارئ ويداعب مشاعره للغوص فيها، ويستفز أحاسيسه لسبر أغوارها؛ فنجد الكلمة الأولى (عزف) هو مصدر يدلّ على فعل موسيقي من قِبَل إنسانٍ خبير ومرهف الإحساس، فنان، موسيقار… إلخ، والموسيقى فعل حضاري، وإن حضرت الموسيقى حضرت المرأة، وحضر السلام، فالقتلة لا يعزفون.
وأول عازفة ومغنية في التاريخ هي (أورنينا) في سرير الفرات.
والكلمة الثانية (أنامل) وهي نهايات الأصابع الرقيقة تستخدم لملامسة الأشياء الناعمة، وتقودنا بوعي أو لاوعي إلى أصابع الأنثى لِكَوْن النعومة والرّقة من صفاتها.
والكلمة الثالثة (عاشقة) وهي صفة مؤنثة للأنامل، وحين نذكر العشق تحضر المرأة والرجل أيضاً.
ولو نظرنا إلى الغلاف لوجدنا اللون الأحمر في العنوان، وهذا اللون لون الإثارة الأنثوية والليالي التي فيها أنثى وطرب تُسمى (الليالي الحمراء)، يُضاف إليه الوجه الحالم للمرأة وعينيها الناعستين، وتأطيرها بهالة من اللون السماوي والأصفر والأخضر الفاتح.

الروائي والقاص عمر الحمود
فالغلاف بكليته وجزئياته وألوانه، والوجه الذي فيه يخلق لوحةً من التوافق والانسجام، ويشير إلى المرأة إشارةً صارخة لا يمكن تجاوزها. أي أنّه كشفَ لنا جانباً كبيراً من ملامح القصص، يدفعنا للدخول إلى حرمها وملاحظة تجليات المرأة فيها.
وعلى عتبة دخولنا نجد الإهداء الذي يقول: إلى امرأةٍ منتظِرة، تتشكّل حُلماً وراء حلم.
فكان بوصلة تشير إلى أنّنا نسير في الاتجاه الصحيح، وأنّ المرأة حاضرة بقوة في القصص، وبعيداً عن دورها التقليدي (مفرخة أطفال، ومفرغة شهوات، وطبّاخة أكلات)، ولها الدور البطولي فيها؛ تنتظر أشياء من العالم، وينتظر العالم منها أشياء أكثر، ويبحث عنها الكاتب، وإن لم يجدها في الواقع يخلقها من أحلامه.
ويتنوع حضورها وفق علاقتها بالرجل، وبعيداً عن مثيرات الغريزة والشهوة.
ومن أهمّ تجليات ذلك الحضور:
1 ـ المرأة جميلة في كلّ طقوس حضورها، في فرحها وفي حزنها، وفي غناها وفقرها، وهذا الجمال يجعل العالم أحلى، ولا يختلف الأمر إنْ كانت صديقة أو زوجة أو عاشقة، حتى يظنّ القارئ أنّها آلهة جمال، أو امرأة مثالية لا توجد إلا في ذهن الكاتب في مواقع كثيرة.
(خرجت بمحاسن تُفتِن الزاهد الورع) ص124.
(تسرّ الناظر، وتوقد في القلب حسرة) ص7.
(تخوض في الماء، فيتحوّل الماء مرايا وسلاسل من فضةٍ وعقود من ذهب) ص41.
2 ـ المرأة عفيفة بفطرتها، وتواكب بيئة محافظة إلى حدٍ بعيد، لا تتبع أساليب الغواية كما تفعل الكثيرات من بنات جنسها في مجتمعات أخرى، ولا تُسيّرها رغباتها، ولا تُساوم على شرفها مهما قست الظروف عليها، وتصبر مهما جارَ الزمن عليها؛ ففي أوج اشتداد الأزمة وغياب الرجل الحامي والراعي ظلّت محافظة على ثوابت الأسرة، معيلة لها، ومنعتها من التفكك، جاعت، وشدّت على الحجارة مئزراً، ولم تأكل من ثدييها، فهي أنثى رقيقة حالمة في الرخاء، ورجل حازم وواقعي في البلاء، ودفعت ثمن صمودها ثمناً باهظاً.
(نسف الطبيب أقوالهم، وقال بحسم: إنّها عذراء، لم يطأها إنسٌ ولا جان) ص98.
(إنْ عانقته يتحوّل إلى رجلٍ عادي، لأتركْه رجلاً خرافياً) ص13.
(أنا أنثى، وإنْ اشتعلت رغبتي فلن أقدّ قميصك من دبرٍ كما فعلت زليخة) ص101.
(أيّها الجَسور امتشقْ سيف الجرأة، وحددْ موعد الخطبة) ص74.
3 ـ متجذّرة في بيئتها، ووفية لها، ونخلة سامقة لا تحيا إلا فيها، محبّة لمعالمها وتاريخها، ممجّدة لأوابدها، ومرتبطة بالطبيعة حولها كأمٍ حنون لها؛ فكانت فراتاً آخر في المنطقة، يمدّ ما حوله بخيرٍ، وخصبٍ وفير.
(كيمامةٍ مهاجرة تأتي من بعيد، من سنجار، أو رأس العين، أو حرّان لا فرق، تحيطها سحابة من نور، تنثر خطاها رائحة المسك والعود والعنبر) ص36.
(يمضيا على كلام الخواص، تتبعهما فراشاتٌ، وألحان وسرب عصافير، تُظلُهما غمامة، وحين وضعا أقدامهما على باب بغداد جادت الغمامة بالمطر، وهدأ غضب الفرات) ص45.
(حضرت بقامتها الفارعة كساريةٍ في مسجد الجامع العتيق، وبوجهها الوردي كوجه عذراء اغتسل برؤية الرشيد في قصر البنات) ص9.
(لمس في نبرتها مذاق نعناع السواقي في سهول البليخ) ص71.
4 ـ مثقفة، وحافظة لموروث المنطقة، وراوية له، وعارفة بما تريد، ومُلهمة للرجل؛ تنثر مسك الكلام فيستنشقه مأخوذاً بمعانيه، وهي على علاقة تكاملية مع الرجل، وتأبى أن تكون علاقتها به علاقة تبعية.
(أبدت حرصها على المدينة، وعبّرت عن أسفها حين حطّمت عقلية بدائية لقى أثرية في المتحف) ص51.
(أريد أن أنهل من علم مولاك لتمتلئ دناني بالخضرة، ونبيذ ادّخرته قبل أن يُخلَق الكرم) ص37.
5 ـ امرأة معشوقة عاشقة وحالمة بالأجمل، وتريد الحياة مع الرجل كنهر عطاء وكوثر بدءاً من الأسرة وصولاً إلى المجتمع كلّه.
(تحلم برجلٍ محبوب، يعيد تشكيلها بمهارة، فترفّ حوله فراشة ربيع، وتدوخ فيه، ويدوخ فيها، وصورته لا تبارح خاطرها) ص8.
(تدخل حالة وجد، تتوحّد مع الطبيعة، وتصفّق لها أشجار المكان، ونهر الفرات، وأوابد المدينة) ص10.
(تخرج إليه من الماء حورية نهر، وميضها يوقد منارات مهجورة، ويرفع العجاج، وتخضلّ الضفاف والأجراف) ص44.
(حبّها يفيض فراتاً كلّ يوم، ويتكوثر طمي خصب على الضفتين، فاقرأ في ألواحه الطينية المباركة أسفار حضارات) ص81. وفي مواضع قليلة تكون ابنة عصرها، وتتحدى الرجل.
(كانت خيبته كبيرة حين رأى المرأة الجميلة تخرج من الصالة آخر الليل بصحبة رجلٍ غريب) ص54.
(أغلقت الباب وراءها، وتركته مهزوماً) ص24.
فالمرأة في القصص إنسانة؛ عطر حضورها باهر مبهر، وغيث يروي صحارى الحياة، وأنّ الكاتب عمر الحمود عزف كلماته على قيثارة أحوالها، وناي تقلّباتها الهنية والشجية، فقدّم لنا مقطوعة موسيقية لامست أوجاع أرواحنا وحنيننا إلى أفقٍ دافئ جميل.
الرقة