رسائل الحمام

جريرة الفيسبوك

محمد رضوان

في خندق الفيسبوك، هذا الخندق الهش، الذي أدلف إليه بكل حذر، متحسساً الأشواك والدروب الموحشة، متوخياً المقاصد الوعرة والأهداف غير الآمنة، أقول أن في هذا الخندق المُقفر تختفي اللغة وتحتجب، وربما تتمنع وتعتصم، من كثرة ما تُشاهد من خبل واضطراب وفقدان توازن، وتتحرر فيه النصوص كما تتحرر المرأة بشكل صارخ، وتتوكأ الجُمل على عصى الضعف والركاكة وخِفة المضمون، ويصير الحِس هجيراً وقيظاً، والمعاني كلها رغبات مغشوشة، حتى أن الشهادات والصور والحكايات صارت حفلات صخب وسِعَة كلام ونغمات مبتورة.

على صفحات الفيسبوك، كل شيء مطروح على سبيل التجربة، الصداقة والحب والأخوة، حتى بر الوالدين على سبيل التجربة، ومن تَثبت صلاحيته يُدرج في قائمة السالكين، حينها يمكنه بسهولة أن يُصفف شعره المُستعار، ويُطلق في وضح النهار شهادات الزور، وأن يعترف على الحقيقة، ويمكنه كذلك الإبلاغ عن كل من تسول له نفسه في التفكير السليم وعلى هذا الذي يُحاول غلق صندوق الألقاب المبذورة.       

على هذه الصفحات الصاعدة المتلاحقة يظهر الذوق العام، وتظهر اللحوم الرخيصة، وتبدو القصاصات الرديئة على هيئة أسْفار وصكوك ووثائق ذات خطورة، ولا أظنني مُسرفاً في التقدير إذا زعمت أن تسعة أعشار ما يُثار بين الناس في الحياة العامة من أحاديث وحكايات مُستقى من هذه الصفحات المُلتبسة بين الشك واليقين، هذه التي تدور كالساقية التي يقطرها الأبقار فتغرف من المياه الآسنة لتسقي الحرث والإنبات.

ورغم أن للتدوين سحر خاص وغريزة فياضة، وأن العقول المكتظة بالنفيس تقتل النباهة المُصطنعة، وأن الفكر المُكتسي بالديباج يمحق الحناجر العارية، إلا أن هذا السوق الفاسد يمنح الأجيال الصاعدة المزيد من الابتذال والتفاهة، ويجعل سلائقهم خائرة وأهدافهم سقيمة، ويذهب بهم إلى المستقبل غُفاة غير مبالين، بل ويستخرج للحاضر بطاقات العضوية في أندية الرقص وكسر الإرادة والعيش في صناديق العجائب بلحوم مسمومة.  

الورطة الكبرى أن الناس تُقبل على الغُثاء وتُقدمه، بل وتُسارع في بثه وإشاعته، وعند الرصين تشيخ حواسها الخمس وتذبُل زهرات الضجيج، وتتخلى القِطط عن صخبها المعهود، وتُفضل النوم على رفوف المعزولين، عن الانضمام لكشوف النبلاء.

ومن أكثر الأشياء التي تروق ليّ في هذا التطبيق المُنبسط، هو هذه التنبيهات الخاصة بذكرياتك، والتي تُعيد ما قد سبق ونشرته بنفسك على حسابك الشخصي، هذه التنبيهات التي ربما تحمل معها ردود لبعض من الأصدقاء والأحبة بعد أن رحلوا عن دنيانا، وربما أيضاً تأتي ببعض هؤلاء الذين تقلبت الأيام ولفظتهم الأحداث والمواقف من الحياة برُمتها، كما أن هذه الذكريات تكشف هؤلاء الذين بَدّلوا مذاهبهم ومقاصدهم بعد تبدل الأحوال، وانقلبت أطوارهم من الطلاح إلى الصلاح والعكس.

لقد رأيت هذه الخاصية الجميلة كالصندوق الأسود الذي رصد وسجل كل الأفكار والآراء، وحفظ عنده كل التنهدات والتأوهات، ووضع حُراساً على تفاصيل عقلك ومعرفتك، هذا الصندوق بحق يعرف كيف يكشف الحقيقة عند أقرب طوفان، فلا يوجد لديه أفرع أخرى للحقيقة، ولا رافد جديد لأنهار العسل، أنت فقط من يقرر، إما أن تدرج صورتك في الدليل المصور للنجباء، أو تذهب منشوراتك كما يذهب الغبار، الكل واستقامته.

وكذلك فإن خاصية الذكريات هذه التي نحن بصدد الحديث عنها، تعمل كيفما يعمل جهاز كشف الكذب، هذا الذي يُمكنه أن يفضح المُتَبدلين، ويستجلي المُتَحولين، ويكشف النقاب عن المُتَجاوزين المُفرِطين، بل وفي لحظات الصدق الفارقة يمكنه أن يُزيل ظُلمة المداهنة وعتمة المهادنة، ويلتقط أدوات الاستفهام الخبيثة، ودلالات الجحود الوَغْدة، وحين العبث يمكنه أن ينتزع الحق بقوة من الأرواح المُخادعة المُفترية، فهو يُحَلِق فقط فوق الأشكال السامية والأفكار القويمة.

وحتى لا تأخذني قسوة الفكر وغِلظة الحُكم، فإن لـ “فيسبوك” أوجه أخرى حِسان، حينما ينسلخ عن التفاهة والمبالغة، ويتجنب المآزق الوجودية، هذه التي تجعل البعض يستسهل غمط الأعمال الأصيلة لحساب الرعناء، وقتل الأحاسيس الصَدوقة لحساب الجائرة، فمآزق الوجود هذه هي التي تقف عائقاً أمام استواء النفس ومرونة قراراتها، وهي التي تجعل الفاسد يتواطأ سرًا مع النكران، ويُضفي غمام كثيف على الصادق من الحديث، هي مآزق حضور يصنعها كاسدو العقل وجانحو الأرواح، يصنعونها لشعورهم العاق بالخُسران، رغم أن ربحهم الأعظم في إبانة الرصين الوقور، وستر الهازل السفيه.

في الختام، أقول أننا جعلنا من هذه الصفحات التي صُنعت للتواصل والاقتراب، منبعاً للتقاطع والهجران، ومصدراً للتحاسد والتناحر، ليس لشيء سوى أننا جعلناها واجهة وعنوان، فصارت مع مرور الوقت أكبر طاقم مكياجات على وجه الأرض.

جاء في التذكرة الحمدونية لابن حمدون:

قال إعرابي لابنه: مالك ساكتاً والناس يتكلمون؟

قال: لا أُحسِن ما يحسنون.  

قال: إن قيل لا، فقل أنت نعم، وإن قيل نعم، فقل أنت لا، وشاغبهم، ولا تقعد غَفِلاً لا يُشّعَرُ بك.

أديب الرياضة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى