قيود الذهب

محمد رضوان

لا أظن أن كائن من كان يُقيد نفسه بنفسه، ولا أحسب أنه يضع الأغلال بين يديه طواعية، ولا يُكبّل معصميه بلا معارضة، فالقَيد يظل قيداً مهما تجملت أحواله، وتزينت مناقبه، حتى وإن كان من ماس ومرجان، وتحلى بجنيهات من الذهب الخالص، وتعطر بالمسك والريحان، وطُليت أجزاؤه بماء الياقوت وزيوت الأعطار.
ورغم أنّ الأغلال في الدنيا على كثرتها، وما أظن أن إنساناً خلا من إحداها، يبقى هناك قيداً، يُذعن له المرء بكل ارتياح، ويصير له عبداً، وحسبه ينادي، هاك يدي ورجلي، وهاك عنقي، فقيد ثم قيد، على أن يكون كمالي في القيد، وهيبتي في إتمامه، حتى يصير الغُل الأقدس بين أغلال الدنيا وأصفادها.
هذا الغُل المقدس وضعه الله في يدي آدم وزوجه، وشرّعه الدين منذ أن وجد، وتعاقب بين الخلق حتى يومنا هذا، ولولاه ما كانت الأسر والعائلات، ولا تعاقبت السلالات والأمم، وقطع دابر الخليقة من أولها، لذلك فهو قيد ذهبي كبير، أحبّه الناس وتكالبوا عليه، رغم ثقله وشدّة تكاليفه، لما لا وقد تقاتل ابنيّ آدم من أجله، واقترفت الجنايات بسببه، لكنه يبقى القيد الواجب المحبب لكل الورى، إنه قيد الزواج.
لقد حكم قاضي الحياة بوجوده، لتبقى الحياة، دائمة مستمرة على نهج قويم، سالكة المسالك المحكمة الحكيمة، وصار ضرورة مقضية لبني البشر، وحكم ملازم لهم، فربط الرجل أنثاه إليه، فصارت غادته ودوحته، ودرج على غراره الأولاد والأحفاد، واستن الجميع سنة الأجداد، بعضهم يفر من القيد فينعم أو يشقى، والبعض الآخر يسلك فيه فيموت أو يحيا.
يبتهج الناس عندما يلتفّ هذا الغُل الذهبي حول معاصم الزوجين، وبدورهم يُسر الزوجين عندما يكون لهم أولاد، فيتلقونهم من أعلى درجات البيت، أو عند رتاج الباب، يرتمون بين الأيدي المتفتحة من أجل العناق، ولا شيء سواه، ويتصايحون وسط القبلات المنثورة فوق الوَجَنات وعلى النحور، وبين هذا وذاك قد تسمع في صحن البيت بكاء رضيع، ويخيل إليك أنه يزعجك، لكن حالما تستعيد وعيك، ويستقر جنانك، ينقلب بكائه هديلاً للحمام أو نغماً للعندليب.
وقد يُدمر غريب عليك مكان نومك، ويقض ّمضجعك، فتثور في وجهه لأنه أذهبَ النوم من عينيك، لكن، حين يُنهضك طفلك ساعات الليل الباردة، ويفرض عليك الأرق والسُهاد، تعود إلى نومك، هانئ البال، راضي السريرة من غير امتعاض أو حنق، ثم في الصباح تحكي عن هذي الليلة ويكأنها إحدى ليالي شهرزاد الألف.
عندما أنظر إلى هؤلاء الشباب والرجال غير المُكبّلين بأغلال الزواج، حينما يصفون حالهم بأنهم طلقاء سعداء، وأنهم نجوا من أغلال الزواج، أقول في نفسي، إن تصريحاتهم هذه ما هي إلا إشباع غرور وإرضاء نفس، فإن ذرت الشمس على دارهم في الصباح من يوقظهم؟، وإن أمسوا إلى قطع من الليل لم يجدوا السامر المؤنس، ولا الأولاد المُناغشين المُداعبين الذين يتعلقون بأذيالهم كالقطط الأليفة، لكني أيضاً أعود وأقول بأن هؤلاء أصابهم من الغشم الشيء الكثير، ولا بُد أنهم صائرون إلى ما صرنا إليه، مصفدون في أصفاد الذهب.
هكذا سار بنو الإنسان، وتواقعوا على الزواج منذ أن كانوا، فوجدوا فيه طول الأجيال، ومواضي العصور، وصار لهم بلسماً للحياة، وسلوة عن الفناء، بالبقاء، رغم صيحات “شوبنهاور” فيلسوف ألمانيا محذراً من النساء، وصراخ “أبو العلاء” التي نادى فيها بنبذ النساء وعدم الإنجاب، إلا أن سُنة الله غلبت هؤلاء، فاختار الناس قيود الذهب، بل صفدوا أرواحهم في السلاسل الطويلة المُذهبة، غير مكترثين بهؤلاء الحمقى المغفلين، وبأقوالهم المُخالفة لكل الشرائع.
إن الزواج ثمرة تنبت في حديقة الكون، رعاها الله ورواها وأحسن مغرسها ومنبتها، فكان منها النبت الشهي، الذي لا يُنسى، إن الزواج شركة حلوة يَفنى على جانبيها العمر، ومن شدة عسلها تسرق الأعمار وتستلب الأرواح، لذلك فقد مر أزواج، وسيمر أخرون، وعلى هذا النهج تسير القافلة، وستظل تسير، حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أديب الرياضة