يوميات

عندما تغيب الأم عن البيت

حسينة بوقندورة

في مساءٍ بعيدٍ، خفت فيه صوت الأم المعتاد، وسكنت وجهَها المستشفيات الباردة، وعلّق الأطباء آمالهم على تشخيصٍ لم يكتمل، تغيّر وجه البيت.

كنتُ حينها في الثانية عشرة من عمري، صغيرة بعدُ على استيعاب معنى الغياب، ولكنّ يد جدتي لأبي، الحانية، كانت كفيلة بأن تملأ الفراغ بطمأنينة الأم ودفء الحنان.

لم نشعر كثيراً بما فقدناه… أو لعلنا كنا صغاراً حدّ الغفلة. خلا لي الجو، وصرتُ سيّدة القرار في بيتٍ يشبهني. ارتديتُ فستان أمي، ولففتُ منديلاً على رأسي كما كانت تفعل، وابتسمتُ لهذا الدور الذي ظننته بطولة.

أمرتُ أختي بغسل الصحون، ففعلت كمن يقلّد الكبار غسلاً بلا ماء، أما أخي، فكلّفته بشراء حاجياتنا، فكان يخرج من الباب، ثم يعود من النافذة، ويسلّمني ما أخذه من المطبخ نفسه.

كنا نقلّد الكبار ببراءة ساحرة… اليوم حفلة، نجمع بنات الجيران، نختار عروساً نزيّنها بخرز وأقمشة قديمة، وغداً نلعب “المؤونة” ونتقمص أدوار أمهات لا نعرف عن تعبهنّ شيئاً.

لم يكن “الفايسبوك” قد خطف بعد براءة الطفولة… كنا نعيش الواقع بحذافيره، نرسم بالطباشير على الطرقات، نلهو بالحجارة الصغيرة، بالدمى، بصوتنا العالي وضحكاتنا التي تتقافز من جدارٍ إلى آخر.

وذات نزوةٍ طفولية، وسوس لي خيالي: لماذا لا نقيم جنازة؟! ناديتُ صديقاتي، كلفتُ أخي بدور “الميّت”، كفنته بقطعة قماش بيضاء. دخلن البنات يولولن ويصرخن… أما أنا، فتظاهرتُ بالصمت تحت وقع “الصدمة”.

وفجأة… دخلت جدتي. كانت تتمتم بخوف:

“يا لطيف… بعيد الشر!” . ثم انفجرت، صرخت، نعتتني بأشد الكلمات، اتهمتني أنني مدبّرة هذه “البدعة”، وتفرّقت صديقاتي هرباً من “سوط البلاغ للآباء”.

أما أخي، ذاك الذي ارتدى الكفن، فقد نال العقاب الأكبر…

صرخت في وجهه:

“أين الرجولة؟!”

هكذا كانت طفولتنا… دون شاشات زرقاء، ودون وجوه افتراضية.

نلعب، نُبدع، نبتكر من رحم الغياب، مواويل حضور.نرسم في الطريق بالطباشير أشكالا هندسية ونلعب فوقها أو لعبة بالحجارة الصغيرة في اليد أو بالدمية هذا عندنا نحن البنات أما عن الذكور فلعبتهم المفضلة كرة القدم، أو إيقاد الشعلة الأولمبية، والجري بها في الشوارع لأنه لم يكن مسموحاً  لنا نحن البنات الإبتعاد من أمام منزلنا.

كانت الحياة بسيطة، لكنها عامرة بالألوان، بالدفء، وبالخيال الذي نسجنا منه عالماً، كنا فيه كل شيء.

*الصورة: حقيقية لطفلة جزائرية بلباس الحفلات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى