رسائل الحمام

المدارس والأمم الحائرة

محمد رضوان

عندما سُئل “جورج بيرنارد شو” عما يأسف عليه من هذه الحياة؟، أجاب ببساطة وسخرية شديدين: إنه لا يأسف سوى على ذهابه إلى المدرسة، ولمّا سُئل عما إذا كان أحد من مدرسيه قد أثّر فيه، فوجهه إلى الخير أو إلى الشر؟ فأجاب أن مدرسيه لم يكونوا يُحبونه مطلقاً، بل إنهم جميعاً، لم يكونوا يفقهون شيئاً من وسائل التربية السيكولوجية الحديثة.

وفي سؤال أخر قال الساخر الأيرلندي الشهير أن المعلم سجّان، برغمه للأطفال الشياطين بحبسهم طوال النهار حتى لا يصيبوا أمهاتهم بالجنون، هذا ما قاله بيرنارد شو، وهذه رؤيته للتعليم والمعلمين في زمنه الغابر، وهو ما قد يتفق مع آراء الكثير من الناس بعد مرور ما يقرب من مئة عام على وفاته، رغم اختلاف الأزمنة، وتبدل الأحوال، وتحول المفاهيم والأذواق.

وبشكل مغاير تماماً تحدث “روبندرونات طاغور”، الذي عرفه الناس فيلسوفاً وشاعراً وكاتباً، لكن قلّ من عرف أنه كان معلماً أيضاً، وأنه قد أنشأ مدارسه الفلسفية المعروفة باسم (فيسفا بهاراتي)، أو مدارس شانتي نيكتان نسبة إلى اسم الإقليم الموجود غرب البنغال، والتي تحولت إلى أشهر جامعات الهند فيما بعد، المهم أن طاغور أنشأ مدارسه في الهواء الطلق، حيث اتخذ من أحضان الطبيعة حجرات للدراسة، وفي حضرة الأشجار البواسق، والنباتات المنبسطة، وجعل أزهار السهول كتباً وقراطيس، لكن الأهم أن طاغور كان يُفاخر كونه معلماً قبل كل شيء. 

وبين بيرنارد شو وطاغور، عاش الناس دهوراً وسنوات، فصار منهم من يعشق المدرسة ويقدس المعلمين أيّما تقديس كالفيلسوف الهندي الشهير، ومنهم من كان يبغض الدراسة والمدرسين مثلما بغضها الأديب الأيرلندي الأشهر، ورويداً رويداً، تغلبت الفئة الثانية على الأولى، حتى صار المعلم مكروهاً بين الناس، ممقوتاً في كل الأوساط، إلى أن وصل به أن صار متهماً موصوماً، تتجه إليه أصابع الاتهام أينما حلّ وحيثما تواجد.  

أقول هذا للأسف، بعد أن اندثرت في بلادنا العربية مدارس “من عَلمني حرفاً”، هذه المدارس التي كانت تعتمدُ أول ما تعتمدُ على الانضباط، وترتكز أكثر ما ترتكز على الثقة بين المعلم والمجتمع. لقد اندثرت هذه المدارس بعد أن صارت مقدراتها بين أيدي الناس، فتدخلوا بلا اكتراث، وتحدثوا بلا دراية، واقترحوا بلا إلمام، فأتلفوا النظام وأفقدوه التوازن، وانقلب حال المعلم من الهيمنة الرشيدة إلى الخضوع الأهوج، وصار سليباً منتَزَعاً ، مكبّل الأيدي، مكمّم الفاه، منتزع أبسط الحقوق، مسروق أقل الواجبات.

ولأن المجتمع هو المتحكّم، فقد أوجد لنفسه البدائل، واخترع للأجيال المذاهب، فاستبدل الخبيث بالطيب، والطالح بالصالح، وغرق مع بريق الشهادات، فأغفل الهدف الرئيس من التعلّم، حتى انتبهنا على جموع تغدو وتروح إلى دور العلم، من غير أن تستقي ولو حظ يسير من المعرفة، وصارت المدرسة كالمطبعة، تصنع المعاجم والأسفار، ولا تفرز العقول والأخلاق، وصار السؤال الذي يدور في ذهن كل مُعافى هو من اخترع مثل هذه المدارس؟

لقد هيمن المجتمع على تلابيب الأمر، وأذعن قادة التعليم لأحكام هذا المجتمع وأوامره، وانصرفت دور العلم لإرضاء الناس، ووقع المعلم بين مطرقة المجتمع وسندان التكاليف، فكانت النتيجة تلفُّ التعليم، ونتج عن ذلك مدارس جديدة، لا تعرف المضمون بقدر ما تعرف الشكل، لا تعرف حصصاً للاطلاع في المكتبة، ولا للصناعة والزراعة ولا حتى للرياضة، فهي مدارس أرقى وأسمى في شكلها، غير أن صفراً عملاقًا يقف مختالًا أمام أسوارها لا يبرحها.

اليوم، نستقبل عام دراسي جديد، ولا زال المعلم يكابد روحه، ويدرأ عن نفسه الشبهات، مثلما يفعل الخارجون عن القانون وتجار الممنوع، والناس غير منتبهين إلى أن خَسفةالمعلم إنما هي خَسفةٌ للقدوة، وهو المنوط به بث الفضائل، وإرساء الخلق، يبتدئ العام الدراسي وقد صار المعلم تمثال من العجوة، يبحث عن قَبول الناس واسترضائهم. 

على الجانب الآخر، يكون يوم العودة إلى المدارس في أكثر البلاد الأوروبية والأمريكية يوماً خفيف الظل، لطيف الروح، بل إنّه قد يصل لأن يكون أجمل أيام العام قاطبة، فالأولاد يتبادلون الأقاصيص فيما بينهم عن رحلات الصيف ومباهج الإجازة، ويتنسّمون روح المدرسة من جديد مع تسلم الكتب الجديدة، التي لها جاذبية الثمر الطازج، أمّا المعلمون فيتأهبون بأنصع الثياب وأنجع الوسائل، بعد زيّنوا جدران المدرسة بكلمات الترحيب وعبارات التشويق المدرسي.

إنَّ سلامة المجتمع من صحة التعليم، ولصحة التعليم موجبات، أهمّها إطلاق يدُ دور العلم، وإماطة كل فئات المجتمع عن سياسات العلم، فمن هنا يأتي التوازن التعليمي، الذي نتيجته الحتمية جيل نافع ناجع مثقف.

أديب الرياضة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى