فواصل منقوطة

فواصل منقوطة ؛؛؛

عبد الكريم البليخ

كثيراً ما كانت تحلم في السفر إلى بلاد بعيدة تجهلها، أيّاً كانت وجهتها، بهدف تحقيق حلم وردي؛ طالما يدغدغ مشاعرها ورغباتها، ويلحّ عليها في اختيار القرار السليم لجهة الفرار من واقع أليم تعيشه، إلّا أن ذلك الحلم القديم يواجه عقبة كأداء من الصعب أن تلامس أي حل يلوح في الأفق، ما دامت المشكلات التي تعانيها كثيرة والسلبيات أيضاً.

 فكرت غير مرّة ترك أسرتها والهرب منها، إلّا أن ضميرها لم يطاوعها، وما تربّت عليه يفرمل تحركاتها، ويمنعها من الإقدام على تجسيد تلك الفكرة التي تلاعب خيالها، وتقف حجر عثرة أمام ما تحاول أن تفجّره قنبلة من العيار الثقيل!.

تعيش الزوجة المقهورة حياة ذليلة في ظل زوج ميؤوس منه، غير مهتمّ بمشاعرها، ولا يفكر إلّا بملذاته الشخصية، ومعاشرتها في كل ليلة تحت أي ظرفٍ كان.. ـ تحاول جاهدة أن تدفع به بعيداً عنها ـ معللاً أن ما يقدم عليه حق مشروع، وتنفيذه واجب على الزوجة،  فضلاً عن تضييقه عليها بمكوثه في البيت جلّ الوقت.

أدركت الزوجة الطيبة ـ مع مرور الأيام ـ أنها مضطرة على البقاء والالتزام إلى جانب زوجها؛ الذي يعنّفها وأسرتها راضية بالمقسوم، هذه الأسرة التي تضم ابنة شابة في الثالثة والعشرين من العمر تعاني شللاً نصفياً يُلزم والدتها التي تعاني الأمرّين البقاء معها، ومداراتها في تلبية احتياجاتها والإشراف عليها، وأب أناني لا يعرفُ قلبه الرحمة، كل ما يفهمه في هذه الحياة هو معاشرة زوجته في كل ليلة ودون رغبة منها.

حاولت الصراخ مراراً من واقع شيمته التعاسة دون جدوى، وتدفعها رغبتها في السفر إلى حيث لا قلب يحزن ولا عين ترى وأذن تسمع.

 محاولات باءت بالفشل، والسبب في ذلك إشرافها على ابنتها والاهتمام بها، وهذا ما جعل حياتها مريرة مذلة منعتها من اللحاق بأي تقدم إيجابي يمكن معه أن يهيئ أمامها طريقاً مشرّعاً في الفرار من واقع موئِس، وزوج بخيل كثير الكلام، لا همّ له سوى بقائه منزوياً في بيته بعد الانتهاء من عمله، لا يبادر في العمل على تقديم أي خدمة، وإن كانت بسيطة يمكن معها أن تقوّم من حال أسرته، وترقّع بعض الشيء من حاله المهترئ.

الحال الذي تعيشه الزوجة في البحث عن مكان آمن يسعدها، ويدفع بها إلى العيش بأمان كما حال غيرها من النساء المتزوجات اللاتي يحلمن بحياة يغلب عليها الاحترام والتقدير.

ظلت تحاول أن تلامس حياة مريحة قوامها الود والبحث عن الأمان الذي افتقدته مع بدايات ارتباطها بزوج غير قادرة أن تكمل العيش معه في ظل ظروف متعبة.

عجزها في إيجاد أي حل يسعفها في الخلاص مما هي فيه دفعها إلى التفكير في السفر إلى بلاد أخرى وإن كانت تجهلها. بلاد طالما سمعت بها، ووصلها الكثير من أبناء جلدتها، إلا أن قلبها وعيونها ظلت تحدّق إلى حال ابنتها الصبية التي تفكر في حالتها المرضية، ومن ذاك الذي سيشرف عليها ويداري وجعها. ابنتها التي تحتاج إلى من يساعدها من مرض عضال يلازمها ومنذ الصغر، وهذا ما يجعلها تدوس على قلبها بعدم اللحاق بتحقيق رغبتها كرمى خاطر عيون ابنتها، وهي تحاول كسر الطوق للحاق بركب المسافرين إلى بلاد الاغتراب، والاستقرار فيها برغم الظروف التي واجهتهم، وهذا ما تسعى إلى تحقيقه.

**

كنتُ ملازماً زميلاً صديقاً عزيزاً عرفته عن قرب، وأقدّره وأجلّه جداً… وهذه العلاقة استمرت في ما بيننا لأكثر من أربعين ربيعاً، إلا أنّي أجده ـ وللأسف ـ يقف بعيداً عني أميالاً وأميالاً دون ذنب اقترفته، وكل ذنبي أنّي غادرت البلد هرباً من واقع مؤسٍ، وحرب مدمّرة أتت على كل شيء، مع أني لم أبخل يوماً في إعانته قدر المستطاع، أو في تقديم يد المساعدة له، وهو في الواقع لم يقصّر في خدمة أو مساعدة ما.

وأجدُ أنّه من باب الاحترام والود، اللّذين أعلقهما وســــاماً على صدري، وهذا طبع متجذّر فيَّ، وما تعلّمته من تجارب شخصية أن أُحافظ على هذه العلاقة من السقوط والترهل مهما أصابها من فتور، وعلى الرغم من الجسور التي تقطعت معها كل السبل بعد أن كانت تجسّد قمّة في الود الإخلاص والوفاء الذي عرفته خلال سنواتها المُبعدة التي شهدتها أيامها الخوالي في الزمن الجميل، وكانت مثار فخرٍ واحترامٍ الكثير من الأصدقاء.

وكان صديقي مثالاً يُحتذى في خدمة الناس، كل الناس، صغيراً كان أم كبيراً، ومحبوباً بطبعه. وهو من سلالة طيّبة، وعرق أصيل، ومن ثوب كريم لم يفصلني عن لقائه يوماً، وطوال السنوات الماضية التي قضيناها مع بعضنا البعض في ود وتراحم، أيّ عارض إلا بسبب الأشغال التي نقوم بها وكانت بالكاد تخرج عن إرادتنا.

كان بالنسبة لي ولا زال، هو مدرستي وموجهي الأول. تعلمتُ في ظلّه الكثير في معرفة الناس، وكنت دائماً أشبهُهُ بمثابة وزير خارجية، وهو يصلح لذلك لا سيما أن هذه الصفة تليق به وعن جدارة، نتيجة خبرته الطويلة في الحياة، على الرغم من صغر سنه، وعلاقاته الواسعة مع الناس، وإحساسه المرهف، والأهم من كل ذلك دماثة أخلاقه وأسلوبه المنمّق الذي ينمّ على شخصية متزنة لها وزنها..

إنّه إنسان واعي وذكي جداً، ولمّاح إلى حد بعيد. متميّز في فطنته، وفي أخلاقه وحتى في حنكته وتقاليده التي جُبل عليها، وفي الأعراف التي ينتمي إليها، فضلاً عن حسّه الإبداعي، وفي التفاتته التي تخلو من أي لون من ألوان الحقد أو النميمة!

إنسان كبير بفكره، ومحبوب بتصرفاته، وأكثر ما يمكن أن أقول عنه، أو أقدمه للناس، وأن أعرفهم به على أنه إنسان نشيطٌ جداً، محب لفعل الخير، ميال لأصدقائه ودافعه خدمتهم دون تذمّر.

إنّه بسيط جداً في مظهره، ومتفهّم أكثر لعمله الذي يوليه أهميةً كبيرةً، وعلاقاته الطيّبة مع شرائح المجتمع. إنّه صديق الطفولة والشباب معاً..

لهذا الصديق أقول، وعلى الرغم من الفراق والبعد الذي فقدنا به أجمل الذكريات وأيام الصبا ورياحين النعناع البري وأصالته، فإنّ محبته تظلّ محفورة في قلبي، في وجداني وفي ضميري، على الرغم من أنه بادر متحدياً قطع صلة العلاقة التي ربطتنا يوماً مع بعض، وفي أعلى مراحلها، ودون مبرّر.. ورغم أنّي حاولت مراراً إعادة العلاقة به من خلال التواصل معه إلا أنه كان يبرّر ذلك بذرائع مختلفة لا يمكن أن تفوت أو تغفل عن أحد.

وكما يبدو، أنه فضّل الاعتكاف في بيته على علاقاته بالأصدقاء والمحبين، فلم تعد تعني له العلاقات مع الأصدقاء أو غيرهم شيئاً!. كل ما أصبح يهمّه الاهتمام بنفسه وبأبنائه، وهذا حقه، والبعد عن أي صديق مهما كان.. ولم أظن أنّي في يوم ما قصّرت في أي شيء تجاهه، بل كنت من أقرب الناس له محبّاً مخلصاً وموداً، وهذا طبع جُبلت عليه لا يمكن بحال ان يتغير فيَّ، أو يغير الزمن والمكان ما أنا عليه.

يظل بالنسبة لي صاحب فضل كبير، وخدماته لا يمكن لي أن أنساها أو أتناساها يوماً، فهي مغروسة في وجداني وفي ضميري، وهو من أرفع الناس بالنسبة لي مقاماً، وأحبّهم إلى قلبي مهماً أبعدته الأيام عنّي، وبلغت به قطع صلة العلاقة والود، ورفض التواصل وأياً كانت الذريعة!.

ومع كل هذا فإنّي أعذره وأكن له كل المحبّة والود والإخلاص، لأنه من منبتٍ طيّب، ومن أسرة كريمة مشهود لها بالكرم والنبل والوفاء وطيب المحتد.

**

لا أبحث عن إرضاء الناس.. فإرضاء الناس غاية لا تدرك. كما أنه لا يروق في عين الإنسان أن يرى قريناً له متفوقاً عليه في شيء. إنه يُعدّ نفسه مركز الدنيا ومطمح الأنظار. فإذا صار مطمح الأنظار بدلاً منه شعر بالحسد له وود أن ينزله من عليائه، وهذه طبيعة الإنسان في كل مكان.. وساعة واحدة في العودة إلى الكتاب تعيد لنا بعض الأمل، وتبعث فينا المزيد من الاستزادة في المعرفة والتعلّم، وهذا ما يفرحنا ويرضي رغباتنا، ويعزّز من ثقافتنا ويثريها.

**

أكثر ما لفتني وأبهرني وهزّني من الداخل أشخاص نظيفو السريرة، يدخلون القلب مباشرة دون استئذان. يميلون إليك بتهذيبهم واحترامهم وتقديرهم وحبّهم العميق الذي لا ينضب، وأنت بالكاد تعرفهم، أو كنت تعرفت إليهم، أو أنك سبق أن التقيتهم صدفة، ويبدون لك الشوق والإملاءات التي تدل على مدى الحنو والألفة التي يجعلون منك مقداماً وفارساً، وقد تكون نتيجة هذا الحب المتدفق بمثابة عنترة بن شدّاد، وحمزة بن عبد المطلب، وغيرهم من الأشدّاء الشجعان.

وفي المقابل؛ تجد على النقيض تماماً أشخاصاً من أقرب الناس إليك، أو صديقاً على معرفة بك، وقد تكون أسديتُ له معروفاً أو خدمة في مسألة ما. هذا الإنسان ـ للأسف ـ هو من ألدّ الناس لك خصومة وعداوة وكرهاً، ويفيض تجاهك بغضاً وحقداً لخطأ بسيط ربما بدر منك، ودون قصد، أو لمجرد معاتبتك له على موقف تافه لا يستحق الذكر. والأنكى من ذلك أنك تلوم نفسك على موقفه تجاهك، وبدون ذنب اقترفته. وهذا ما يثير سريرتك أكثر، ويحطّم من معنوياتك، ويدفعك إلى قطع أية علاقة مع أي صديق أو غيره!.

ماذا يمكن أن نقول حيال ذلك الإنسان الذي يفيض عطاءً وشوقاً ومزاجاً رائقاً ونفساً طيّباً، المحب للناس والعاشق لهم ولخدماتهم، ويعاملك على بساط أحمدي.. وذاك الذي يرميك بسهامه وبعدوانية بغيضة، ويمقتك ويُخفي عليك أطناناً من الحقد؟

فإلى من نَحتكم، ومن نقدّر ونثني ونكيل الحمد؟!

رئيس التحرير

1/10/2024

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى