مقالات

أمة الثوابت والرجوع إلى الخلف

خطيب بدلة

التمسك بالثوابت القومية والوطنية، شعار بعثي شهير، يقوم على منطق غبي، يوحي لك بأن عقل صاحب الثوابت فاقد حد المرونة، ورقبته تعاني من “الوتاب”، يمشي إلى الأمام “شقفة واحدة”، كما لو أنه كركدن، بينما تحتاج السياسة إلى مرونة، وديناميكية، وبراغماتية، وأن يعيد الحاكم برمجة سياسة دولته على ضوء المستجدات.

إنه شعار خنفشاري، غير قابل للتطبيق. مثلاً، الثابت الأول، الأكثر أهمية، عند النظامين البعثيين الشهيرين، العراقي والسوري، هو الوحدة العربية، وأما على أرض الواقع، فكانت الحرب بين النظامين، “على القتل”، كل منهما يَحفر للآخر، ويدعم الجماعات التي تعارضه، ويسلحها، على أمل أن تتمكن من إسقاطه، وطوال وجودهما في السلطة، كانت الحدود بين الدولتين مغلقة، والمواطن في إحداهما، إذا قال عبارة مديح للنظام الآخر، يُشحط من بيته، ويودع في مكان عميق تحت الأرض، وقد يموت تحت التعذيب.

وعلى الرغم من إصرار النظام البعثي على فكرة الثوابت، يستخدم الإعلام الرسمي مصطلحات تناقضه، مثل حكمة القائد، ومقدرته على التكيّف مع الظروف، بالإضافة إلى مصطلح “المناورة”، الذي سمعناه أول مرة في تشرين الثاني سنة 1970، عندما نجح انقلاب حافظ الأسد، ووقف يخطب، فقال عن القيادة السابقة إنَّ عقليتها مناوِرة، مع العلم أنّه كان ركناً أساسيًا في تلك القيادة، وزير دفاع، ولعله كان يقصد أن عهد المناورات انتهى، وصحّحنا المسار، ورجعنا للثوابت القومية.

قدر المواطن، في هذه البلاد المنكوبة، أن يسمع الشعارات، ولا يصدقها، لأنه يعرفُ أن ما يجري على الأرض شيء آخر، ولكنه يضطر للتظاهر بأنه يتبناها، وأحياناً يطالبونه بالترنم بها، والرقص على إيقاعها، فيفعل ذلك صاغراً، فإن لم يفعل يُشحط، ويرفس، ويعذّب، وتنهال الشتائم على نسائه، وهذا كله يأتي في سياق “الثابت” البعثي الثاني، الذي يسمونه: الحرية!

لم تنعم بلادنا، خلال تاريخها الطويل، بالتداول السلمي للسلطة، كما في البلدان المتحضرة، حيث يذهب الحاكم الذي تنتهي مدته إلى بيته، ويأتي غيره، إضافة لوجود آليات للمحاسبة، تطبق حتى على الحاكم، فإن كذب، أو اختلس من أموال الشعب، أو تلقى رشوة، يُفضح في الصحافة، ويستدعى إلى البرلمان ويسأل، ويستجوب، وقد يؤدي ذلك إلى سحب الشرعية منه، ومحاكمته قضائياً، حتى يصل إلى السجن.

من ثوابت القوميين، والإسلاميين، في بلادنا، اعتبار إسرائيل عدواً دائماً للأمة، وهذا أمر، لو فكروا فيه ملياً، محرج، فما حصل، منذ قيام إسرائيل قبل 77 سنة، يمكن تشبيهه برجل يجلس في قطار، والقطار متوقف في محطة، وثمة قطار متوقف في موازاته، والرجل شارد، مستغرق في موبايله، وفجأة يشعر بأن قطاره صار يمشي إلى الخلف، وبعدما يعرك عينيه، ويصحو، يكتشف أن القطار الآخر مشى إلى الأمام، بينما قطاره لا يزال واقفاً في مكانه.

المشكلة، أو المعضلة، أو الكارثة، أن وصف أمتنا بأنها تراوح في مكانها لم يعد كافياً، ولعل أفضل مَن عبر عن الحال المفكر السعودي إبراهيم البليهي، الذي قال: “نحن لسنا متخلفين وحسب، بل نحاول أن نشد العالم المتقدم، ليصبح متخلفاً مثلنا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى