الأديب والنحات والتشكيلي أيمن ناصر: العمل الفني يتآكل برياح الإهمال!.

*الأحلام تسبب الإحباط.. و ثمّة أمنيات تتوالد بعد كل عمل أنجزه
*أميل إلى السفر.. وليس هناك أفضل من عدم الاستقرار لتحريض الفكر
*الفنان يتعامل منذ بداية تكوينه الفكري مع رموز سحرية.. وحين يعيد صياغتها رسماً أو نحتاً أو كتابة وكأنها مفردات خاصة به وحده
*الفنان والنحات بالذات من أكثر المعنيين بتخليد رجالات الأدب والفن لكنه لا يملك القرار بزرع الساحات والحدائق بالشواهد الحضارية
كتب ـ عبد الكريم البليخ

كغيره من أبناء مدينة الرّقة الفراتية، وطوال أكثر من ثلاثين عاماً قضاها في ربوع الفن التشكيلي وألوانه المختلفة، محباً وعاشقاً له، ومكرماً كل وقته له، وخلال تلك المرحلة تمكن الفنان أيمن ناصر من أن يحقق بعضاً من رغباته الكثيرة، فاستطاع أن يُجسد كثيراً من الأعمال الفنية المتفرّدة، وبصورة خاصة في مجال النحت، فشغل كثير من النصب النحتية في مدينه السورية، وكان أغلب ما هو متوافر في الرقة من منحوتات من نتاجه، الأمر الذي حقق له شهرة واسعة لدى أبناء مدينته، فضلاً عن غيرها من المدن السورية التي اهتمت بهذا الجانب.
اليوم، يقيم الفنان أيمن ناصر في مدينة شانلي أورفا في تركيا منذ سنوات أعقبت الثورة السورية التي دفعت بالكثير من الفنانين الموهوبين المتفردين الأكثر تميزاً من مغادرة سكناهم، ولجأوا مضطرين إلى الإقامة بعيداً عن موطنهم، إلى الدول المجاورة الأكثر أمناً، ويرأس اليوم النادي الثقافي فيها، ومتفرغ للفن والكتابة.
شاهد على حضارات سادت
فالناصر كان يعيش على ضفاف نهر الفرات منذ أكثر من نصف قرن وهو شاهد على حضارات رافدية سادت على شاطئ هذا النهر منذ آلاف السنين، وهو يشعر أنه امتداد لهذه الحضارات، ولديه الكثير من الأحلام والآمال التي لم يحققها بعد على صعيد الفن التشكيلي على وجه التحقيق في مجال النحت.

الأديب والفنان التشكيلي الراحل أيمن ناصر
ولد الأديب النحات أيمن ناصر في مدينة الرَّقة عام 1958م.. وفي عام 1981م انتسب إلى نقابة الفنون الجميلة في سورية، وحصل على دبلوم فنون تشكيلية عام 1978وعين في العام ذاته مدرساً للنحت في مركز الفنون في الرّقة ومدرساً للفنون في معاهد وثانويات مدينته لأكثر من ثلاثين عاماً، وانضم إلى تجمّع فنّانيها 1978وتولى أمانة سرّ فرع نقابة الفنون الجميلة فيها منذ عام 1996م، وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين العرب 1983، أضف إلى كونه عضواً مؤسس لجمعية ماري للثقافة والفنون 2006، وسبق له أن درس اللغة العربية في جامعة حلب 1993 ـ 1996 وله عدد من الأعمال الأدبية، اضافة إلى اهتمامه بالفن التشكيلي والنحت، ومنها رواية “الّلحاف” الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق 2019، ورواية “روجين” الصادرة عن دار شامل في نابلس فلسطين 2019، ناهيك بمجموعته القصصية الصادرة عن دار لمي الأزرق للنشر والتوزيع تركيا ـ أورفا 2020 بالإضافة إلى الكثير من القصص والمقالات المنشورة في بعض الصحف والدوريات السورية والعربية، وحاصل على جائزة ثابت بن قرة الحرّاني في القصة القصيرة ـ سوريا 2008، والناصر عضو في جمعية شآم للفنون التشكيلية بالرّقة 2018، وعضو جمعية صنّاع السعادة في أورفا 2019، ورئيس مكتب اتحاد الفنانين التشكيليين بالرّقة 2010 ـ 2013، ومؤسس ورئيس فرع ملتقى الأدباء والكتاب السوريين في أورفا في الفترة من 2016 ـ 2020.
الأحلام تسبّب الإحباط
في حوار مع ” المزمار” يقول الفنان أيمن ناصر المهجّر قسرياً عن مدينته الرّقة مسقط رأسه: “الرّقة تعيش في وجداني منذ الطفولة، ولا أتخيل نفسي أعيش في أي مكان آخر بنفس الحميمية التي كنت أعيشها مع الفرات وأصدقائي والأمكنة. والأمكنة على اتساعها تضيق بالفنان أحياناً. وحتى المدن بكل جمالياتها وتاريخها العظيم يحس المبدع أنّها تشدُّ وثاقه بمفاهيم ضيّقة قد تجاوزها الآخرون منذ عشرات السنين، فيحلق بعيداً يدافع بأعماله عن وجوده، ويمنح حياته معنىً وأهمية”.

ايمن ناصر في مرسمه


من أعمال الفنان اين ناصر


ويضيف “أنا بطبعي أميل إلى السفر. قضيت نصف عمري في الترحال بين العواصم العربية. فـليس هناك أفضل من عدم الاستقرار لتحريض الفكر”.
وعن تعامل المثقف الفراتي برموز المنطقة سواء لجهة الأرض والنهر والأوابد التاريخية يقول “المثقف الفراتي ـ إن جاز التعبير ـ بشكل عام، يتعامل منذ بداية تكوينه الفكري في هذه المنطقة مع الأرض والنهر والأوابد وكل الموجودات، على أنها رموز سحرية كانت في يوم ما تتنفس روح الأسطورة، وهو حين يعيد صياغتها رسماً أو نحتاً أو كتابة، يعيدها وكأنها مفردات خاصة به وحده، فهو يعشقها ويتوحّد مع حدود قدسيتها المباحة له، يرسمها بشفافية امرأة تغرق في الندى، تطل كوجه “عشتار” على عتبات معابدها، تتأكد من ربات الحب يمارسن طقوس عشقهن كأجمل ما يكون العشق، هكذا يكون أحياناً عشق الفراتي لبلده وتراثه”.
وعن أحلامه يكمل ناصر: “أما عن أحلامي، فأنا لا أحلم بالمعنى الحقيقي للحلم، لأنه يظل حلماً، وتظل الرغبة فيه دفينة الوسادة والليل وضوء القمر، والأحلام عادة تسبب الإحباط، ولكن ثمة أمنيات تتوالد بعد كل عمل أنجزه، في أن أتجاوز هذا العمل إلى أفق أكثر اتساعاً وأكثر إقناعاً”.
غياب الملامح النحتية
وعن أسباب غياب الملامح النحتية، والنصب التي تخلّد رجالات الفكر والأدب، وأبطال قاوموا الاستعمار من أبناء المدينة، أضاف “أن الفنان والنحات بالذات من أكثر المعنيين بتخليد ذكرى هؤلاء الرجال، لكنه في النهاية لا يملك القرار بزرع الساحات والحدائق بالشواهد الحضارية، والنصب الإبداعية دون موافقات، أو دون رعاية من الجهات الرسمية، وقد طرحنا ذلك أكثر من مرة على الجهات المعنية والثقافية المسؤولة دون جدوى، وما نراه من أعمال نحتية في الساحات العامة للمدينة، هو غيض من فيض يضجّ به الصدر، وتضيق به الذاكرة، من رجالات لم ينفذ لهم نُصباً تذكارية تبقى في الذاكرة، ومن هؤلاء: “البتّاني”، و”ربيعة الرّقي”، و”ثابت ابن قرّة الحراني”، وصولاً إلى المجاهد الكبير “رمضان الشلاش”، والمعاصرين أمثال الأستاذ النائب “حامد الخوجة”، والشاعر “فيصل بليبل”، والمؤرخ الشاعر “مصطفى الحسّون”، والأديب الكبير “عبد السلام العجيلي” وآخرون كثر أنجبتهم محافظة الرّقة. هؤلاء غيض بسيط ينتظر فقط التفاتة بسيطة ممن يمتلكون القرار”.
وفي دفاعه عن وجوده الفني، كنحات ترك بصماته في مدينته وبعض المدن السورية الأخرى، وكيفية دفاعه عن المنحوتة بعد أن تفلت من يديه، يقول ناصر “يستطيع النحّات أن يدافع عن وجوده الفني، إن هو عمل بصدق وشفافية دون زيف أو محاباة أو تجيير أو تحجير لأفكاره ومشاعره، كما أن منحوتته ستكون أيضاً قادرة على الدفاع عن حياتها إن لم تمسسها يد الغدر والهمجية، وإلا فما معنى خلود الأوابد والأعمال العظيمة بأسماء مبدعيها عبر مئات السنين، كالأعمال الإغريقية والرومانية والأعمال الفرعونية والآشورية والعمورية من قبلها”.
ويضيف “إن العمل الفني كائن حي ومستقل كباقي الكائنات، فهو يتجدد وينمو بحرارة الاهتمام، ويتغير لونه، ويتألق بأنفاس متلقيه، ويتشقق ويتآكل ويتقلص برياح الإهمال والتخلف وأمطار التهميش”.



شواهد من تجربته
ومن شواهد تجربته كفنان يتابع “أما الشواهد من تجربتي فهي متواضعة، أذكر منها النصب التذكاري لـ “هارون الرشيد”، الذي ظل راسخاً في مدخل حديقة “الرشيد” في المدينة، يدافع عن وجوده بمادته الخام الحجر الصناعي، حتى حطّمته أيدي أصحاب الرايات السود، وأذكر مجموعة أعمال بالحجم الطبيعي تعود للعهد الآشوري في متحف دير الزور، وأعمال أخرى في متحف التقاليد الشعبية، ونصب “بنت البلد” على رصيف منتزه “الرشيد”، ونصب لـأبي العلاء المعري، في مدخل الثانوية التي تحمل اسمه في الرّقة”، ونصب للشهيدة حميدة الطاهر في باحة الثانوية التي تحمل اسمها، ونصب الفروسية، ونصب تذكاري لـ”ابن خلدون” في مدخل الثانوية التي تحمل اسمه 1981م، ولوحات جدارية لدى بعض وزارات ودوائر الدولة”.
أقام الفنان أيمن ناصر عدد كبير من المعارض ماذا يخبرنا عنها “أقمت الكثير من المعارض الفنية، ومنها معرض فردي في صالة المركز الثقافي العربي في اللاذقية عام 1977م، معرض فردي في صالة المركز الثقافي العربي مصياف 1994م، معرض فردي في صالة نقابة الفنون الجميلة في حلب 1997م، معرض فردي في صالة المركز الثقافي الروسي في دمشق 1998م، معرض الندوة الدولية لتاريخ الرّقة 1981م، وفي أغلب معارض تجمّع فناني الرّقة، ومعارض وزارة الثقافة السنوية، ومشارك دائم في معارض متحف طه الطه منذ تأسيسه”. كما شارك بالعديد من المعارض الجماعية داخل القطر وخارجه مع فنانين عرب وأجانب، يذكر منها “معرض مهرجان البادية الأول والثاني عامي 1987 و1988م الذي نظمته وزارة السياحة، ومهرجان الفرات للتراث والثقافة في الرّقة في عامي 1998 و1999م، معرض مع الفنانة النمساوية أندريا تيرني عام 2006م، معرض تحية للدكتور عبد السلام العجيلي في صالة المعارض في دار الثقافة بـالرّقة عام 2006م، معرض الخريف لفناني القطر في دمشق عام 2007م”.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أيمن ناصر.. وداعاً
ها هو القدر يخطف أحد أبناء الرّقة المبدعين، الذي يُلزمك على الاستماع إلى حديثه الطيّب، وما يُضمّنه من إسهاب سردي لكثير من حكاياته وأعماله التي كانت محطّ إعجاب الجميع، فضلاً عن لطف تعامله ومشاركاته في كثير من فنون الإبداع.
الأديب والنحات والتشكيلي أيمن ناصر في ذمة الله. الأخ المود والصديق الطيب أبو أحمد يغادرنا “بلايا” وداع.
في آخر تواصل معه، أرسل لي رسالة صوتية، وكعادته في التواصل معه، ألحّيت في السؤال عن حالته الصحية، وأكد لي أنّه ليس لديه القدرة على الكلام كما يشتهي. في كل مرّة كان يضع النقاط فوق الحروف، وأصغي بحب إلى ملاحظاته، وآخرها حوار كنت أجريته معه عن الأدب والفن، وأعدت إرساله إليه للاطلاع قبل إدراجه للنشر.
كان مليئاً بالشجن، صابراً، من الصعوبة أن تكمل معه ما في جعبتك من حديث. اعتذرت عن تبادل الرسائل الصوتية؛ لأنه في وضع صحي لا يسمح بذلك، فاعتذر بكل لطف، كعادته.
أيمن ناصر، ذلك الإنسان الذي يتميز عن كثيرين بصدقه، ووفائه، وطيب معشره، وهدوئه.
أيمن ناصر يودعنا بقامته التي نظل نفاخر بها، وبقيت صورته في الذاكرة، إلا أنها لا يمكن أن تغيب عن أنظار كل من عرفه عن كثب من أدباء وفنانين وتلامذته ومحبيه، وما أكثرهم.
رحم الله فقيدنا الغالي وأسكنه فسيح جناته..
عبد الكريم البليخ
…
شهادات
وفي قصيدته “أرواح متعبة” في رثاء الفنان التشكيلي والروائي أيمن فرحان الناصر يقول الشاعر إبراهيم النمر:
وفي حضرة الموتِ
صمتٌ يُخيّمُ سيلَ أنينْ..
وفي حضرة الموتِ
تبكي الحياةُ
بصوتٍ خجولٍ حزينْ..
و في حضرة الموتِ
يُوقِفُ نهرَ الحياةِ
تدفّقه الثّرّ
توقفُ ناعورة الحلم
أحلامها الزاهياتِ
وتيكي العيونْ..
وفي حضرة الموتِ
لا شيء يبقى
ولا شيء يفنى
وكل المسافات تنأى
وكل الدروب تضيقْ..
ووحدَكَ في حضرة الموتِ
لا مؤنسٌ
أو صديقْ..
وفي حضرة الموتِ
يجتمع الأهلُ حولكَ
لا بسمةٌ في شفاه الصحابِ
ولا أملٌ في الرجوعْ..
و في حضرة الموتِ
تبكي الشموعُ
وتبكي الدموعْ..
وفي حضرة الموتِ
وفي حضرة
وفي……..
…
كما قال عنه شاعرنا المخضرم النمر:
“وداعاً أيمن فرحان الناصر
كان جميلاً و هادئاً و طيباً
لم يعكّر صفو إبداعه شيء ولم يصرفه عن الإبداع شيء..
أدواته القلم و الفرشاة و الإزميل
أبدع في الرواية ..وتفوق في الرسم ..وأنجز في النحت فكان ثلاثة في واحد ..”.
الشاعر إبراهيم النمر
**
ورثاه زميله الفنان التشكيلي فهد الحسن، حيث كتب على صفحته في فيسبوك يقول:
“وماذا أكثر من الحزن يا أبا أحمد، ماذا أكثر من نحيب الروح والمشاعر والوجدان والذكريات.
لقد أدركت منذ عدة أيام أن الغياب مصرٌ على أن يصطحبك معه هذه المرة، ليخلف فينا الغصات والألم والفقد الذي لم نعد نقوى على احتماله لكثرة المحبين الذين أخذهم إلى ملكوته دون تلويحة أخيرة أو وداع سريع يشبه الطلقات المتتابعة من سلاح أتوماتيكي.
مذ أرسلت لي قبل أسبوعين من وفاتك بصوتك المتهدّج الواهن تشكرني على اهتمامي بك، لوّح الغياب برسالته وكان لصوتك بوصلته الواضحة التي تسكن مع تراجيدية الإيحاء الأخير الذي لا تخطئه الحواس ولا يضيعه التوقّع.
إلى رحاب سماوات الله يا أبا أحمد … فقد أنهكتك تداعيات السنين العجاف التي أتعبتنا جميعاً، ولم يعد أمام من تخطته سهام الفراق إلا الانتظار …. فقط الانتظار.
وداعاً أيمن ناصر أيها العزيز .”.
الفنان التشكيلي فهد الحسن