الغربُ الديمقراطي جدّا!

طالب عبد العزيز

لقد عرّت الوقائعُ في غزّة جسد الغرب الديمقراطي العفن، وتكشفت فلسفة إنسانة عن أنيابٍ ومخالب قذرة ودامية هذا الاستعمار البريطاني – الأوربي – الأمريكي، الذي أحسن الظنَّ به بعضُ الموهومين العرب، ممن هاجر منهم إلى هناك، وأضحت صادقةً حقيقةُ ما حذرنا منه الوطنيون الأوائل في المدارس والمناهج والأدبيات، لم تستطع أحزاب الخُضر وحماية البيئة وجمعيات الرفق بالحيوان وتسهيلات الهجرة والصور الرومانسية التي تطالعنا على الشاشات والصحف صباحاً ومساء كل يوم التستر على عقيدة القتل والوحشية التي تؤمن بها الأحزاب الحاكمة في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وغيرها.
إذا كانت الصهيونية العالمية وعبر ماكنتها المالية والإعلامية قد تمكنت من العقل الأوربي – الأمريكي، ورسخت فيه فكرة معاداة السامية، والحق اليهودي في فلسطين، على حساب الملايين العربية طوال قرابة قرن من الزمن، فهذا يعني خواء العقل ذاك، أو في أقل تقدير فراغه من إنسانيته، التي يتبجح بها فلاسفته ومفكرُوه، مع يقيننا بأنَّ الاحتمال الثاني هو الأقرب إلى التصديق، إذا ما تذكرنا التاريخ الوحشي للمستعمر الأوربي – الأمريكي، وما فعله في أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الآسيوي، تلك الهمجية التي ليس أقلها السلب والقتل واِحتقار الإنسان، ولا نتحفظ في قولنا بأنَّ روح المستعمر ذاك ما زالت حاكمة في عقل أحزاب اليمين واليسار في أمريكا وأروبا.
الشعوب العربية لن تنسى كلمة وزير الخارجية الأمريكي بلينكن عقب أحداث السابع من تشرين الأول حال وصوله تل أبيب بأنه هنا كيهودي، ولن ترى في زياراته التي تجاوزت العشر، محاولاً إيقاف الحرب أو عقد هدنة إلا ذرّاً للرماد في العيون، وكذلك ما يحاوله بايدن الرئيس، وكل ما يوهمنا به قادة الحزبين الرئيسين في لندن (المحافظين والعمال) كذلك الأمر مع الحزبين (الجمهوريين والديمقراطيين) في واشنطن، وما يدعيه ماكرون بباريس، وشولتز في برلين، وكل العواصم الأوروبية، كلهم يعلنونها صريحة، لا لبس فيها، بأنّهم مع إسرائيل لقتل الفلسطينيين. نعم، استطاعت أحداث غزة، وتمكن الدم الفلسطيني من فضحهم، مثلما استطاعت تحريك الشارع هناك، لكنْ، ما الذي حدث؟ وهل تغيرت المعادلة؟ أبداً، فالمستعمر متوحش إلى اليوم.
نقرأ بين آونة وأخرى أخباراً يقول بعضُها بأنَّ الإدارة الأمريكية تضغط على حكومة نتنياهو، وأنَّها فرضت حظراً على الشركة هذه أو تلك، التي تبيع السلاح لإسرائيل، وليس آخرها ما سمعناه بأنَّ الحكومة البريطانية منعت عدداً من شركات التسليح من إرسال أو بيع الأسلحة إلى تل أبيب، ومثل ذلك ما نسمعه في برلين وباريس وعواصم أوروبية أخر، لكنَّ المعادلة لن تتغير، ولن تنقلب موازين القوى لصالح الفلسطينيين والعرب، هناك مبدأ راسخ لا جدال فيه اسمه (أمن إسرائيل) وأمريكا ولندن وباريس لن تقف ضد الأمن المزعوم هذا، وإنْ أقدمت إسرائيل على إبادة الشعب الفلسطيني، وهو ما تفعله اليوم، وإلّا ماذا يعني مقتل أكثر من أربعين ألفاً في غزة، بينهم العدد الأكبر من الأطفال والنساء؟ وتدمير المدينة بالكامل، ترى، كيف يستقبل الإنسان الأوربي والأمريكي (الديمقراطي جداً) الأخبار، وهي تتحدث يومياً عن سقوط العشرات من الغزّاويين؟ وأيُّ صورة للإبادة الجماعية أكثر من الصورة الدامية هذه؟
نحن إذن أمام غربٍ (أمريكي) مجرم وبربري ومتوحش، ولا قيمة للإنسان غير الأبيض عنده، ويكيل إنسانيته بعشرات المكاييل الزائفة، وإنْ تقدّمَ الإنسانُ هناك عبر آلة الميديا والسينما على أنه المثال في العواطف تجاه الأطفال والمرأة والحيوان والطبيعة، ذلك لأنَّ طائراته وصواريخه تقتل وتحرق وبهمجية القرن الواحد والعشرين الأطفالَ والنساءَ، وتدمّر المدن، وتقلب الأرض بدعوى ملاحقة مقاتلي حماس!! ترى، وماذا عن الأربعين ألف شهيد، الذين سقطوا هناك، على أرضهم وأرض أجدادهم؟ وماذا عن اليتامى والأيامى وعشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين، وبأيِّ عين حولاء سينظر المواطنُ الأوربي – الأمريكي (الديمقراطيّ جدا) لأفعال كهذه؟ وكيف ستقدم هوليود الفلسطينيَّ المقطّع في مشاهد القتل والتدمير بأفلامها القادمة؟
لكن، وبعيداً عن حقيقة ما جرى ويجري في غزّة، وهزائم الإنسانية كلها، وخيبة الأمل بكل ما هو آدميّ، ستبقى لنا كلمة بحقِّ الحكومات العربية وشعوبها أيضاً، ترى، أين أنتم مما جرى ويجري طوال الشهور العشرة الماضية؟
ومثل ذلك نقولها للحكومات والأحزاب التي انتصرت في ربيعها الإسلامي: أما زالت طريق القدس تمرُّ عبر كربلاء؟
إذا كانت كذلك، فها هي سالكة، وتمرّ عبر بغداد ودمشق إلى القدس أيضاً.