آراء و مقالات

في ذكرى توقفها.. (السفير).. أيقونة صحفية لا تُنسى

عبد الكريم البليخ

قبل ثماني سنوات من الآن، توقفت صحيفة “السفير” اللبنانية عن الصدور، في الحادي والثلاثين من ديسمبر ـ كانون الأول لعام ألفين وستة عشر، بعد مسيرة استمرت اثنتين وأربعين عاماً منذ تأسيسها في 26 مارس 1974. جاء هذا الإغلاق نتيجة مصاعب مالية واجهتها الصحيفة، في ظل تفاقم أزمة الإعلام في لبنان وتراجع عائدات الإعلانات والمبيعات.

الراحل طلال سلمان رئيس تحرير صحيفة السفير

تظل صحيفة “السفير” رمزاً خالداً في عالم الصحافة العربية، تحمل في طياتها روح الإعلام الملتزم والرسالة الصادقة التي جعلتها واحدة من أهم الصحف التي شهدتها المنطقة. بغيابها، خسرنا منبراً كان يجسد قيم الحرية الفكرية والمهنية العالية، تاركاً فراغاً كبيراً في قلوب عشاق الكلمة الصادقة والمتابعين الذين وجدوا فيها نافذة تطل على أبعاد أوسع من الأخبار والتقارير.

مع توقف “السفير”، افتقدت الساحة الإعلامية مصدراً ثرياً كانت صفحاته تحمل عمقاً فكرياً وتنوعاً ثقافياً لا مثيل له. لقد كانت هذه الصحيفة منبراً للنخب الثقافية والفكرية، وملاذاً لأولئك الذين يبحثون عن التحليل العميق والرؤية الواضحة للأحداث. هذا الغياب لم يكن مجرد غياب جريدة؛ بل كان خسارة لرؤية إعلامية متفردة ارتبطت بذاكرة الأمة وقضاياها المصيرية.

صحيفة السفير

كانت “السفير” بقيادة الأستاذ الكبير الراحل طلال سلمان، أكثر من مجرد صحيفة يومية. لقد كانت مدرسة صحفية قدمت نموذجاً للإعلام المسؤول الذي يضع القارئ في قلب الحقيقة. نهجها التحريري المتوازن، وتركيزها على القضايا العربية والإقليمية الكبرى، جعلها في طليعة الصحف التي تتمتع بالمصداقية والثقة. لقد كانت بحقّ نافذة تعكس صوت الشعوب وآمالهم وتطلعاتهم، وفي الوقت ذاته، تسلط الضوء على مكامن الخلل وتنتقد الواقع بجرأة ورقي.

الوطن .. بلا السفير

إلى صاحب الامتياز، وإلى الأستاذ طلال سلمان، نقول: ستظل “السفير” جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة الإعلام العربي. لقد نجحتم في تقديم نموذج صحفي نادر يجمع بين المهنية العالية والالتزام بقضايا الأمة، وتركتم بصمة لا يمكن محوها. كان قلم “السفير” حاداً عندما يتطلب الأمر، ولطيفاً عندما يناقش قضايا إنسانية واجتماعية، مما جعلها محل انتظار قراءها من كل الفئات، صغيرهم وكبيرهم.

لم تكن “السفير” مجرد صحيفة لبنانية؛ بل تخطت بسمعتها وتأثيرها حدود الوطن، لتصبح صوتاً عربياً مسموعاً في كل الأرجاء. من خلال مقالاتها، وتقاريرها، وتحقيقاتها، وصلت إلى القارئ العربي حتى في المناطق التي لم توزع فيها بشكل مباشر. صدى كلماتها كان يُسمع في البرامج الإذاعية، وينتقل عبر القنوات الفضائية، ويُقتبس في الصحف الأخرى التي وجدت في محتواها مادة تستحق التكرار والانتشار.

في ظل التحولات التي يشهدها الإعلام العربي، يبقى الأمل معقوداً على عودة “السفير” إلى الساحة الإعلامية. عودتها ليست مجرد حلم، بل ضرورة تحتاجها الصحافة العربية لتستعيد بعضاً من وهجها المفقود. فـ”السفير” ليست فقط صحيفة متميزة؛ بل هي إرث ثقافي وإعلامي يفتخر به الجميع.

ما ميز “السفير” عن غيرها هو التزامها برسالة الإعلام كأداة تنويرية وتثقيفية. في زمن تتحول فيه الصحافة أحياناً إلى منصات لتضخيم التفاهة أو لتصفية الحسابات، كانت “السفير” مثالاً ناصعاً على أن الإعلام يمكن أن يكون مسؤولاً وواعياً دون أن يفقد شعبيته. إنها الصحيفة التي أثبتت أن القلم يمكن أن يكون سلاحًا في وجه الظلم، وأن الكلمة الحرة يمكن أن تغيّر الواقع.

في عالم الصحافة، نادراً ما تجد صحيفة تمتلك هذا الكم من التأثير والاحترام الذي امتلكته “السفير”. لذلك، نحن كقراء وعشاق للكلمة الصادقة، نأمل أن تعود هذه الصحيفة لتكمل رسالتها النبيلة. فعودتها ليست فقط ضرورة لمحبيها، بل هي حاجة لكل من يؤمن بأن الإعلام يمكن أن يكون قوة إيجابية تصنع الفرق في حياة الناس.

إلى “السفير”، وإلى كل من ساهم في نجاحها واستمرارها عبر العقود الماضية، نقول: نحن ننتظركم. لأن الإعلام العربي يحتاج إلى منابر تحمل الروح التي حملتموها، وتُعيد إلى الصحافة مكانتها كمرآة صادقة تعكس أحلام الشعوب وتطلعاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى