الوردة والتراب

ستار كاووش
أنظرُ دائماً إلى الأشياء التي تصادفني في الطريق، أتأمّلُ أشكال الناس وقصّات الشعر وألوان الملابس، أُحدّق في تصاميم الدراجات والسيارات وأشكال الكتب، أُعاينُ الاختلافات بين القناني التي تملأ الرفوف في المخازن والمتاجر، أتوقف أمام الحدائق لأرى الفروقات بين ألوان الزهور وأحجام الأوراق. ففي ذلك متعة جمالية توازي متعة الرسم، كذلك اكتشاف أن الجمال يكمن في التفاصيل، ويمكننا تحسّسه بطرق متعددة. فالنبيذ أو العصير أو أيّة قنينة شراب، تجذبنا أولاً من خلال (الأتيكيت) أو الليبل إن كان جميلاً أو مرسوماً ومصمماً بعناية، وبذلك يبدو الشراب لذيذاً إن كان تصميم القنينة والليبل جذاباً وجميلاً.
نحن بطبيعتنا نُصدّق الكلام الجميل دائماً، حتى لو ساورتنا الشكوك حول صحّته، ونبتعد عن الكلام العفوي البسيط غير المرتّب، حتى وإن امتلأ بجواهر العاطفة الإنسانية، وذلك لأننا في الغالب مجبولون على التعلّق ببعض الوهم والكذبات التي نزيّنها ببعض المكياج. فالحياة في الكثير من جوانبها هي مجموعة من الكذبات الجميلة. حتى الرسم الذي أمارسه كل يوم، هو كذبة بصرية، فليست هناك امرأة جميلة في اللوحة ولا رجل عاشق ولا حتى منظر للطبيعة، والعملية كلها عبارة عن قطعة قماش مسطحة أضع عليها مجموعة من الألوان بطريقة مناسبة ومتناغمة.
نسيرُ في الشارع، ونرى شكلاً عشوائياً لقطعة من الخشب فنعجب به، أو نشاهد ظلالاً طريفة على جدار قديم فنرى فيها الكثير من الجمال. حتى زقزقة العصافير نستمتع بها ونراها جميلة، لكننا لا نعرف لماذا هي جميلة. غروب الشمس أو حتى شروقها نراه ساحراً، لكننا لا نستطيع أن نشرح لماذا ينتابنا هذا الشعور.
وأحياناً تتغيّر نظرتنا إلى الجمال، بل تنعكس تماماً، لدرجةٍ يصبح فيها الجمال خالياً من معايير العدل أو الحق، كرؤيتنا الجمال في بعض الأشياء دون سبب واقعي، مثل نظرتنا الرومانسية إلى أوراق الأشجار التي تتساقط وقت الخريف، بينما لا نُعير اهتماماً لتهاوي مدن كاملة لأنها بعيدة عنا. ومن خلال هذا المعيار نرى — دون سبب واضح — أن الريشة أكثر جمالاً من المسمار، والوردة أشد عذوبة من التراب، وهكذا نمضي متعاطفين مع شكل العصافير، فيما نَشمَئِزُّ من هيئة الضفادع.
يمكننا الادّعاء دائماً بأن الأعمال الصالحة هي التي تقودنا لمحبة هذا أو ذاك، مع ذلك يفتقر الأمر في الغالب للعدل والمنطق، فنحن، رغمَ إعجابنا ببريجيت باردو المُسنة وهي تدافع عن الحيوانات الضعيفة، نهفو أكثر إلى صورة بريجيت الشابة الشقراء الجميلة. ومن هنا نُقدِّر الناس من خلال ثيابهم التي نراها جميلة، لكننا لا ننتبه في الغالب إلى عقولهم المضيئة.
كتب الرسّام ديلاكروا ذات يوم في مذكّراته: (الجمال… الجمال، من أين لي أن أبدأ بهذا الذي ابتلع كل مبدعي العالم؟). هكذا يظهر الجمال بصيغ وهيئات مختلفة، وحتى متباينة، ولا يمكن الإلمام بها. وبشكل شخصي، أُعيرُ المهارة اهتماماً خاصاً، فهي في حد ذاتها نوعٌ من الجمال، وهي تجعلنا نتعاطف مع من يستعملها أو يَتدبّر بها الأمور، مثل ذلك الرجل النحيف الذي شاهدته البارحة في المقهى، غارقاً في عالمه الخاص ومنشغلاً بلفّ السجائر بيده، والغريب في حالة ذلك الرجل هو أن إحدى يديه كانت مقطوعة، لكنه مع ذلك استطاع أن يلفّ سيجارته بمهارة فريدة، حيث وضع قليلاً من التبغ على الورقة التي ثناها قليلاً بأصابع يده الوحيدة، ثم وضعها وهي نصف مغلقة على بنطاله الجينز في منطقة الفخذ، ودحرجها تحت أصابعه بطريقة رشيقة، حتى التفت على بعضها وتحوّلت بلمح البصر إلى سيجارة وضعها في طرف فمه، وردّ بسرعة على الاتصال الهاتفي الذي أتاه فجأة.