آراء و مقالاتبصراحة

هل تجف الموهبة الإبداعية؟

  كثير من الأدباء مروا بحالة من الجدب الإبداعي، وارتضوا بمصيرهم وانتقلوا إلى أنواع أخرى من الكتابة كحالة من التعويض الذاتي، وأن الأديب وحده هو الذي يمتلك القدرة على قرار اعتزال الكتابة والتوقف عنها.

  وطبيعي أن يمر المبدع في فترات من حياته بحالات جدب، حيث تستعصي عليه العملية الإبداعية، بداية من تشوش الفكرة إلى ضعف الصياغة، وربما عدم الاطمئنان إلى المفردة التي تؤدي المعنى، المشكلة في ثبات حالة الجدب.

  أذكر أنني تأثرت لقول يحيى حقي في “أنشودة البساطة” إنّ الفنان  وحده دون سائر الناس قد يذوق الموت مرتين، حين ينتهي أجله، وموت أدبي حين  ينضب معينه، وكلمات حقي تذكرني بقول تينسي وليامز: “إن كل فنان يموت ميتتين، ليس موته هو مخلوقاً مادياً فقط، وإنما موت طاقته الخلاّقة أيضاً، فهي تموت معه، بالنسبة لحقي، فقد أضاف إلى تأثره إنه توقف عن الإبداع القصصي في سن السادسة والخمسين، وهي سن عطاء، وليست سن توقف، فمجموعة “الفراش الشاغر” التي كتبها في عام 1961 كانت آخر قصصه القصيرة، لم يكتب بعدها سوى خواطره ومقالاته الصحافية، وقد سأله أحدهم:؟ لماذا لا تعود إلى كتابة القصة، فقال له ببساطته العفوية: تجهدني كتابة القصة.

 إنَّ العمل الفني لا يقبل الوسط، أو التساهل، أو القناعة بالحسن دون الأحسن، أنه يتطلب حشد كل القوى.

 وقد أرجع نجيب محفوظ فترة توقفه عن الكتابة السردية الإبداعية، بعد قيام ثورة يوليو 1952 إلى تصوره بأنه قال كل ما لديه، ولم يعد لديه ما يضيفه، وتحدّث محفوظ عن الأحلام التي بدا أن الثورة قامت لتحقيقها، بحيث انتفى الغرض من مواصلة الكتابة، ولو من خلال الواقعية الطبيعية التي اتسمت بها رواياته منذ “خان الخليلي” إلى “الثلاثية”.

 لم يواجه نجيب محفوظ بخذلان الإبداع؛ لأنه حرص على أن يظل في عناقه له، حتى الفترات التي توقف فيها عن النشر، أيام رئاسته لمؤسسة السينما مثلاً كان حريصاً على الجلوس إلى مكتبه، بصورةٍ يومية.

  ولعلي أتصور أن حرص المبدع على فنّه يساوي حرص الإنسان العادي على عضلة ما في جسده، إذا لم يستعملها في الغرض الذي خلقت له، فإنها ستتأثر، ويصيبها ما أصاب الزائدة الدودية التي كان لها تأثيرها الإيجابي في جسد الإنسان.

  إنّ الفنان هو الإنسان الوحيد الذي يمكنه أن يصدر قرار إحالته إلى المعاش من داخله، تفاجئه اللحظة التي نسيها في وقت لم يتوقعه، وتعجبني مقولة: “على الكاتب أن يموت ويُبعث”، وهي كلمات لا تخلو من صحة.

 فالإبداع ليس خطاً مستقيماً ولا طريقاً تخلو من النتوءات والتعرّجات والعقبات، قد تقلق المبدع فترات من النضوب، يعاني خلالها التشكك والخوف من فقدان الطريق، لكنه ما يلبث أن يسترد عافيته الإبداعية.

 قد يمرض الإبداع، لكنه يعود إلى تعافيه، أما إذا مات، فالعودة مستحيلة، وقد أدرك الياباني “يوكو ميشما”، بعد اكتمال ثلاثيته الروائية، أنه قد أنهى ذروة أعماله، وأنه لم يعد لديه ما يضيفه، وحتى يتخلّص من المأزق، فقد قتل نفسه، ربما كان ذلك هو السبب نفسه الذي أملى على “هيمنغواي” فكرة الانتحار بعد أن فاز بجائزة نوبل على رائعته “العجوز والبحر”.

  تساءل هيمنغواي، قبل أن تشغله فكرة الانتحار: ما الذي يفعله رجل في الثانية والستين؟ اكتشف فجأة أنه لا يستطيع أن يؤلف الكتب التي حلم بها.

  إنّ قرار التوقف قد يفرضه المبدع على نفسه، لاعتبارات قد لا يكون نضوب الإبداع من بينها، ثمّة عوامل خارجية، تفرض على المبدع أن يتوقف، لعل في مقدمتها تبين المبدع أنه لا يستطيع العيش من كتاباته، فهو لا بد أن يعمل في وظيفة ما، تعينه على الحياة بينما يظل الإبداع مجرد هواية تطلب الإنفاق

عليها.

رئيــس التـــحرير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى