أدب و فنونمسرح

في الطريق إلى المقبرة (1)

نص بصري

خبر عاجل ..

-إلى من يهمه الأمر من أصدقائي المحترمين!!

– أحيطكم علماً أنه بعد موتي ..أقمت في المقبرة لساعات .. وعندما لم أجد من هم أو هو أحسن مني قررت الرجوع للحياة غير آسف!!.

(فأنا ميت لا أطيق الكفن)

           – المرحوم أنا ـ

———–

موت غير معلن

د. حمدي موصللي

– فجأة وجدت نفسي متضايقاً .. الحرارة بدأت تأخذ طريقها إليّ ..تلتها بادرةُ سعلةٍ خفيفةٍ أقربَ إلى مواءِ قطٍ صغيرٍ ضعيفٍ أعمى يبحثُ عن حُلمةِ ثدي أمهِ بين كومةٍ من الوبرِ الكثيف.

– ساعةٌ مرت وأنا لا أبدي أمام صديقيّ أيةِ إشارةٍ تجعلهما يهتمان بي، ويبحثان عن أيةِ مساعدةٍ من الممكنِ أن يقدماها لي .. أنهيتُ الجلسةَ بطريقةٍ مشهديةٍ وبحذرٍ بعيدٍ عن شدِ الانتباه ..هاتفتّ ابنتي من جهازي الموبايل حتى رنَّ رنةً واحدةً، ثم فصلته بسرعة لكي لا يشعرَ صديقاي بما فعلت.. عيناهما نحوي كانتا ترقبانَ حيرتي بحيرةٍ تشغلهما.

– على الرغم من الصمت الذي رانَ للحظاتٍ، وكأنّ صخبَ روّادِ (مقهى البانوراما) قد غابَ.

– رن الموبايل رناتٍ عدةً وأنا أعدّها ..ثم بادرتُ بالرد مع ابتسامةٍ يابسةٍ ..

– ألو .. هلا بابا .. خير؟.. أنا بخير .. شو في؟. ماشي.. أغلقتُ الجوالَ ونهضتُ واقفاً .. اعتذرتُ من جليسيّ اللذين أصرّا على معرفة سببِ مغادرتي الآن على غيرِ عادةٍ!!.

– لا شيء.. فقط مجرد إحساس ببعض الألم والتعب.. شكرتهما، واعتذرت لهما، وطلبت منهما  الإعفاء من مساعدتي.

– الأمر بسيطٌ، ولا يحتاج إلى عونٍ.. قلت لهما ..ثم ودعتهما وانصرفت على أمل ان نلتقي كعادتنا.

– غادرت المكانَ في سيارة أجرةٍ إلى البيت وأنا أدعو، وأتوسل الرحمنَ أنْ يأمر ملاكَ الموتِ السيد “عِزرا” أن يَهبني عشرَ دقائقَ  إضافية إلى عمري، وتأجيل قبضِ روحي التي أصبحت قاب قوسين من فتحتي منخريِّ، حتى أصل بيتي على الأقل!!

– ثم ليس من المعقول أن أموت على قارعة الطريق مثل متسول أخرق لفظه أهله والمجتمع .. أو أموت داخل سيارة أجرة، ويبتلي سائق السيارة بمصيبتي، وبالتالي سيكون التحقيق والضرب والتوقيف مصيره!!

– قلت لنفسي مالي غير سيدي عزرائيل  أكلمه فقد يرقّ قلبه لي .. هذا أصلاً إذا كان له قلب، وهو المخلوق من نار ونور،  وأنا من جبلة طين  ..

– أرجوك يا سيدي! عشر دقائق فقط .. هزّ رأسه بالنفي وهو ينظر إليّ بجحوظ .. على الرغم من سحنته التي بدت أقرب إلى تنّين خرافي برؤوسه السبعة وحِمم النار التي تنبعث من عيونه .. قلت لنفسي لِمَ لا استجير بالرحمن خالق الخلق فهو الآمر الناهي .. الغفور الرحيم وأطلب منه ذات الطلب؟!

– فعلاً استجاب سبحانه لطلبي ..لحظتها وكأني في خلوة التيه أصيخ السمع إلى قوله تعالى .. أيعقل أن أترك عبدي يتوسل “لعزرا” بأن يمنحه الدقائق بدلاً عني؟! لا وأنا الرؤوف الغفور الرحيم  المحيي المميت الوهّاب .. ليخسأ “عزرا” وأمثال “عزرا “.   

– فعلاً تمّ ما تمنيت .. استجاب الله لدعائي  و رجائي.. لحظتها أيقنت أن اللهَ غفورٌ رحيم .. استغفر الله. قلت لنفسي ..

– فتحت زوجتي الباب ومن خلفها ابنتاي وحالةٌ من الخوف والهلع تسيطران عليهنْ.. فقط سمعت الصراخَ والبكاءَ للحظاتٍ، ثم غبت في ملكوت الله.. أعتقد نفذّ الملاك  “عزرائيل”  أمرُ الله بلا زيادة ولا نقصان عن الدقائقِ العشرِ التي وهبني سبحانه إياها .. (يا منت كريم يا رب).

قلت لنفسي: هل أنا ميتٌ حقاً والآن .. أم ماذا؟

– عاودت أصوات البكاء بشكل أعنف وأقوى، خليط من الصرخات يعقبها ندب الندّابات ونحيب النسوة وتراتيل أشعار المراثي من زمن “سومر وأكاد “. 

ـ قال أحد الأئمة المشهود له بفقه وسعة علمه: الميتُ قبل الدفن يسمع ويرى.. لكنه لا ينطق ولا يتحرك.. فعلاً إذا صدق الفقيه!. هي إضافةٌ أو مكسبٌ أو نعمة من الله الغفور الرحيم، وهبة منه لعبده المحمول على آلة حدباءَ قبل الدفن تمهيداً لسيرته الطويلة وغيابه المزمع عن عالمه المؤقت، والذهاب إلى عالم آخر أبدي.

-المهم أيقنت أني ميت، وإنّ ما يجري الآن، ما هو إلّا طقس من طقوس وداع الموتى الخالد في الذاكرة الشعبية مثل وشم استقرّ فيها، ولأني سمعت إيقاع المشهد، وشاهدت بأم عيني في حدود مساحة البصر المحدودة، والمخصصة لميتٍ مثلي في ظل فشلَ قدرتي على الحركة.

– نعم يا سادة بأم عيني .. شاهدت وسمعت كل هذا؟!

 – سؤال في وقته ألحّ عليّ، فسألت نفسي، وأنا مسجّى في نعش أنتظر حملي على الأكتاف، ومن ثم نقلي خطوات قليلة إلى “كبين” سيارة دفن الموتى بعد أن تمّ غسلي وتكفيني، والتكبيرِ لله والرحمة على الميت الذي هو أنا.. حقاً هل أنا ميت بالفعل أم أني في غيبوبة والحرارة المرتفعة التي اجتاحت رأسي حتى أخمص قدمايّ قد سببت لي صداعاً و هلوسة؟! .. -على كل حال تابعت مراسم تشييعي نحو  المقبرة ..

– هنا لا بدّ أن أذكر أن موكب التشييع الذي أحسست به، وأنا المحمول في كبين السيارة التي صدح مكبر الصوت فيها على لسان أحد المرافقين بكلمة واحدة أو اثنتين أو ثلاثة أو جملة طويلة في أثناء سير الجنازة .. ردّدها مكبّر الصوت: الفاتحة ..الفاتحة يا إخوان .. الفاتحة على روح الشيخ زنكي .. الفاتحة يا إخوان على روح العلاّمة الفقيه الشيخ زنكي .. بركاته يا إخوان قال صوت المكبّر، وكرر الجملة مرات ومرات في أثناء سير الجنازة ..

– بالمناسبة ..وغالباً ما يكون صوت المكبر بالسيارة ..يعود إلى الرجل الشيخ الذي غسل الميت وتكفينه، وأيضاً هو من يأم الناس بالصلاة على الميت (صلاة الجنازة) .. 

– أما عن احساسي بأنّ موكبَ الجنازة مهيبٌ وكبيرٌ .. نابع من كوني كنت في حياتي رجلاً مهماً .. ثرياً .. له حظوة عند البعض من الناس، وسطوة على أغلبهم، واليد الطولى في كل أمر من أمور المدينة.. الكل يهابني والكل يخافني من شدّة غضبي إن غضبت .. لا شاردة أو واردة إلّا وأعلم بأمرها .. كما أنّ لي نصيباً من الإتاوات المفروضة حتى على رؤساء بعض الدوائر الاقتصادية الهامة، وكذا شركة هامة أناصفها الربح أو نسبة أحددها لقاء حمايتي لها، ناهيك عن المخلّصين الجمركيين الذين خصصوا من أموالهم لي نصيباً فيها!. وحتى في مصادر القرار أتدخل في تعيين هذا، ورفض ذاك الذي لا أره مناسباً .. يا ويل من الذي يأتي عن خارج إرادتي .. نجوم الظهر قد يراها، وذيل العجل قد يعبده، والمصائب لن تتركه!! سأكون له بالمرصاد مهما بلغ من مكانة أو نال دعماً ..

– محسوبكم والعياذ بالله ..رجل (أزعر بالزاء وليس بالذال). 

———          

البقية تأتي في العدد القادم .. اكتبوا لي توقعاتكم عن هذا الميت الذي لا يطيق الكفن .. ماذا سيحصل له بالمقبرة مثلاً؟..ماذا سيحصل للمشيعين؟. وكيف تكون النهاية؟.

انتظر تعليقاتكم .. قبل نشر بقية النص البصري ..

مؤلف وناقد ومخرج مسرحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى